كانت دولتا الفرس والروم تقسمان السيطرة على معظم العالم المأهول ووقتئذ وكانتا ككل قوتين عظيمتين متجاورتين كثيرتي الاحتكاك بعضهما ببعض .
وفي أثناء ظهور الإسلام بينما كان محمد صلى الله عليه وسلم يجاهد أهل مكة بحجته وبيانه وهم يتمادون في إيذائه كانت الظروف تمهد له الطريق خارج بلاده فقد أخذت هاتان القوتان العظيمتان تتطاحنان .
هنا تظهر قوة الإيمان وقصر حجة الإنسان مهما كان لديه من منطق وقوة استدلال أمام المستقبل الذي لا يعلمه إلا خالق الأكوان ولا يمكن أن يتنبأ به كائن من كان، وإذا قال الخالق كلمته وخالقته ولو إلى حين ظواهر الأحوال السائقة إلى ما ينتظر من نتائج وآمال كذبت في النهاية وصدقت كلمة الله إذ هو الأول والآجر والظاهر والباطن ذو الجلال و الإكرام .
حارب الفرس الروم فتداعت الإمبراطورية الرومانية وسقطت ممتلكاتها كما تسقط الأوراق الذابلة في الخريف .
وصل الفرس إلى شواطئ البوسفور وهددوا القسطنطينية من الشرق، وليت الأمر اقتصر على هذا فقد هاجمتها قبائل الهمج من الغرب فوصلوا إلى أبوابها وأصبحت الإمبراطورية الرومانية لا تتعدى أسوار القسطنطينية وأفلست الخزائن وأصبحت خاوية وفكر الإمبراطور في الهرب .
أنظر إلى بتلر وهو يقول في فتح مصر : " كان أول شيء فعله هرقل أن يبعث إلى كسرى يتوسل إليه أن يصالحه فما كان نصيبه من ذلك إلا الدفع. الرفض بازدراء . وقد عزم هرقل على أن ينضو التاج ويعود إلى موطنه في أفريقيا ".
ويقول عن قبائل الآفار " إنها كانت تجوس خلال الديار في عامي 622، 623 م تخرب فيها و كادوا يوقعون بهرقل نفسه ثم يأخذون العاصمة بمكيدة دنيئة دبرها ".
دولة مهدمة ضعيفة فقيرة مفلسة وقلوب محطمة يملؤها اليأس تطلب الصلح و ترجوه ولكنه يؤبى عليها وتؤذى في كرامتها ويطلب منها تغيير دينها.
أي قوة بشرية مهما كانت كان في وسعها أن تقول إن هذه الدولة المحطمة ستنصر بغير جيش وبغير مال والهزيمة تأتيها من كل مكان ؟ . لو قيل هذا بشر لظن الناس أن به خبلاً .
" ألم . غلبت الروم في أدنا الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون . في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون . بنصر الله من يشأ وهو العزيز الرحيم . وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون " الروم .
ولكن هذا ما قاله عالم الغيب حينما قهرت الروم وظهرت فارس ولكن قريشاً كذبته ولم يكن لأحد أن يلومهم لأن هذا كان فوق متناول الطاقة البشرية .كذبوا وفرحوا . إذ هم عبدة النار وهم في الدين إخوان والنصارى والمسلمون كلاهما على حق ولكنهم لم يعلموا أن كلمة الله على الرغم مما يرون لا مبدل لها .
تحمس الفريقان حتى وصلت بهم الحالة إلى الرهان. فهذا أبو بكر يجزم بان الروم لابد منتصرون، وهذا أبي بن خلف يكذبه ويتمارى في تكذيبه. ولم يكن مع أبي بكر من دليل غير الإيمان بكلمة الله ، إذ كانت كل ظواهر الأحوال تقف ضده وتحاربه .
ترهنا على مائة قلوص بأجل يمتد بضع سنين من ثلاث إلى تسع، معجزة لم تدر بخلد البشر، فلابد أن تتحقق كلمة الله وتتحقق بصورة رائعة يدهش لها الجميع .
تتحقق فجأة وبلا مقدمات. إن ذلك الميت قد دبت فيه الروح وسرت وبلا مقدمات. إن ذلك المفلس قد تلمّس المال فلم يجده إلا في ذهب أواني الكنائس فضحى بها وهي عزيزة على النفس ثم سار بجيشه الذي حطمته الأيام فاسترجع أملاكه ودخل فارس وفتحها واسترجع الصليب الأعظم، شيء عجيب بلا مراء، ولكن متى فعل هذا ؟ أفي الموعد الذي حدده القرآن ؟ نعم و ألف نعم .
نعم ، فلقد ربح أبو بكر المائة قلوص وتصدق بها. ففي بحر التسع سنين هزمت الفرس هزيمة منكرة وتكللت أعمال الحرب بفتح ( دستجر ) وهي مدينة على ثمانين ميلاً من المدائن وذلك في فبراير سنة 628م وفر كسرى هارباً ثم قتله بعد أيام من ذلك، وفي هذا يقول بتلر: ( وانتهى القتال إلى صلح بين الروم والفرس، وهكذا انتهت الحرب الصليبية الكبرى بنصر عجيب قلًّ مثله في التاريخ بما يثيره في النفوس ).