من «النجمة» و«السراي» والـ«كولدج هول» في بيروت.. إلى «التل» في طرابلس
إلى جانب قيمة الوقت، تحمل ساعات الساحات قيمة مضافة بعدما تحولت إلى معالم أثرية في المدن التي تزين ساحاتها.
إنها ساعات كبيرة، شامخة، «معمرة».. غدت بمرور الزمن تحفا معمارية نادرة، تربط بين الماضي والحاضر، وصارت في آن معا شاهدا على حقبة غابرة وجزءا من تاريخ معاصر.
من ساعة «بيغ بن» اللندنية الشهيرة، إلى ساعة مكة المكرمة التي هي الأكبر في العالم، مرورا بساعات «الكيلانية» و«الأعظمية» و«المحطة» البغدادية ذات الأبراج العالية في العراق، وساعات «باب الفرج» و«المحافظة» و«الساعة العامة» و«المدرسة القيمرية» في سوريا، وساعتي ساحة «النجمة» و«السراي الكبير» في أحضان العاصمة اللبنانية بيروت، تختال ساعات الساحات في المدن والعواصم حول العالم، و«تسرق» من روادها عقولهم وأبصارهم، يدققون فيها بتمعن، ويحسبون أوقاتهم على أوقاتها، متجاهلين ساعات يد ثمينة تزين معاصمهم، وكأن لتلك الساعات الكبيرة هيبة لم تنجح سطوة ساعات الـ«ديجيتال» في أن تؤثر على جمالها وجاذبيتها! «ساعة النجمة»، التي كانت تعرف سابقا بـ«ساعة العبد»، الواقفة باعتزاز أمام مدخل البرلمان اللبناني هي «نجمة» ساعات الساحات اللبنانية على الإطلاق، ولقد سميت كذلك، لأنها تتوسط «ساحة النجمة»، وهي ساحة صغيرة سداسية الشوارع والاتجاهات. ولقد ازدانت بحلة جديدة بعدما كانت قد «هجرت» ودمرت إبان الحرب الأهلية، لتستعيد مجدا لم تتمكن الحرب الدامية من أن تسلبها إياه. وها هي الآن تقف شامخة من جديد بهندسة معمارية تتماشى وروح الوسط التجاري، مطوقة بمقاهي الأرصفة الجميلة، التي تعج بالرواد ليل نهار.
أما ساعة «السراي الكبير»، أقدم الساعات العامة في لبنان، فيعدها كثيرون أجملها أيضا. وهي تعرف أيضا ببرج «الساعة الحميدية» أو برج الساعة العثماني. ففي يناير (كانون الثاني) عام 1897 احتفل أبناء بيروت بحدثين مهمين: الأول حفل وضع الحجر الأساسي لمنارة الساعة العمومية، والثاني الاحتفال بعيد مولد السلطان العثماني عبد الحميد الثاني. وكان هذا المشروع نتاج أفكار والي بيروت رشيد بك، وهو المشروع الأول من نوعه في الفن المعماري العربي في ذلك الوقت. وكان الهدف من بنائها إبراز النهضة والفن المعماري في عهد السلطان، بالإضافة للتعريف بالأوقات.
الساعة التي ترتفع 25م كانت أعلى مبنى في بيروت وقت استكمال بنائها في عام 1919. وهي مؤلفة من 5 طبقات، ويوجد في الطابق الرابع من برجها جرس ضخم يزن 300كلغ، وثمة 125 درجة حديدية داخل البرج تؤدي إليه. وتزين الطابق 4 شرفات يغلب عليها طابع المستشرقين الجدد، وفي أعلاها 4 ساعات كبيرة جرى استيرادها من قبل السفارة العثمانية من فرنسا. أما بيت الساعة فمصنوع من الرخام الأبيض المطعم بالحجر الأسود والأحمر.
هذه الساعة استوردتها سفارة الدولة العثمانية من مصنع الساعاتي الشهير بول غارنيه P. Garnier في باريس، ولقد بلغت تكلفة بناء البرج ومستلزماته 126 ألف قرش ذهبي، وحددت حفلة تدشين برج الساعة في 31 أغسطس (آب) 1919 بمناسبة عيد جلوس السلطان عبد الحميد الثاني على العرش، وبالتالي، فقد مر على برج هذه الساعة جزء من العهد العثماني وكامل الانتداب الفرنسي والحقب الاستقلالية المتعاقبة، بالإضافة إلى حروب وأحداث أمنية كثيرة بين عامي 1914 و1990، غير أن البرج ما زال شامخا وصامدا، وكان قد جرى ترميم هذا الأثر العثماني البيروتي في عام 1991، مما أعاد إليه قيمته الأثرية. وفي ذكرى استقلال لبنان في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1996، جرى الاحتفال بإعادة تشغيل «الساعة الحميدية» بعدما وضعت ساعة جديدة في جهاتها الأربع، وسمع أهل بيروت دقاتها للمرة الأولى بعد توقف طال لسنوات كثيرة في 18 أغسطس 1998، عند الانتهاء من أعمال الترميم في السراي الكبير، وهكذا بدا التكامل المعماري والأثري واضحا بين برج الساعة الحميدية والسراي الكبير، الذي وسع وزيد عليه طابق علوي آخر.
غير أن ثمة ساعة ثالثة غدت من معالم بيروت هي ساعة الـ«كولدج هول» التي تزين برج أقدم مباني الجامعة الأميركية في بيروت. هذه الساعة وبرجها كانا قد سقطا في نوفمبر 1991 إثر التفجير الكبير الذي استهدف المبنى التاريخي الجميل وأتى على كل شيء بما فيه الساعة التي يعود طرازها إلى القرن التاسع عشر. إلا أنها ما لبثت أن استعادت مكانها في عام 1999 بعد إعادة بناء الـ«كولدج هول»، تماما كما كان، وأعيد ترميم ما حوله في الحرم الجامعي.
ولكن لا يقتصر وجود الساعات التاريخية في لبنان على العاصمة بيروت، ففي لبنان كما في كل دول العالم توجد ساعة كبيرة تقريبا بكل مدينة. وفي «العاصمة الثانية» طرابلس تنتصب وسط «ساحة التل» في قلب ثاني كبرى مدن لبنان وعاصمة شماله «ساعة ساحة التل» التي بنيت بين عامي 1901 و1902، بارتفاع يبلغ 30م. وهي مؤلفة من 5 طوابق، وكانت قد أهدتها سلطات الحكم العثماني للمدينة بمناسبة الذكرى السنوية الـ25 لجلوس السلطان عبد الحميد الثاني. عقارب هذه الساعة كانت قد توقفت عند محطة زمنية من الحرب التي عاشها لبنان، بالإضافة إلى كسر بعض أجزائها، لكن ذلك لم يؤثر في علاقة الناس بها فظلوا يلتفتون إليها، ويسمعون دقاتها في أعماق قلوبهم.
وفي عام 2006، وفي ذكرى تأسيس طرابلس في 26 أبريل (نيسان) من عام 1289، إثر تحريرها من الفرنجة على يد السلطان المملوكي المنصور قلاوون، وبدعوة من لجنة الآثار والتراث في بلدية طرابلس، جرى إطلاق الإنارة الحديثة لبرج ساعة ساحة التل وأزيح الستار عن اللوحة التذكارية لتأهيلها.