أثارت الحرب أمرأة تدعى البسوس حينما قتل كليب بن ربيعة التغلبي ناقتها فقتله جساس بن مرة البكري رداً على ذلك فقام أخيه المهلهل (الزير سالم) بطلب ثأره.حيث استمرت الحرب أربعين سنة.

وقعت هذه الحرب بين بكر وتغلب ابني وائل ، وقد مكثت أربعين سنة ، وقعت فيها هذه الأيام : يوم النهى ، ويوم الذنائب ، ويوم واردات ، ويوم عنيزة ، ويوم القصيبات ، ويوم تحلاق اللمم ، وجميعها أسماء مواضع تمت فيها الحروب ، ماعدا تحلاق اللمم لأن بني بكر حلقوا فيه جميعاً رؤوسهم فسمي بذلك. وانتصرت تغلب في أربع حروب، وبكر في واحدة، وتكافأت القبيلتان في حرب واحدة.

وهذه قصة هذه الحروب:

لما فض كليب بن ربيعة – اسمه وائل وكليب لقبه ، ولد سنة 440م ، ونشأ في حجر أبيه ، ودرب على الحرب ، ثم تولى رئاسة الجيش : بكر وتغلب زمناً حتى قتله جساس بن مرة سنة 494 م - جموع اليمن في خزا زى وهزمهم اجتمعت عليه معد كلها ، وجعلوا له قسم الملك وتاجه وطاعته ، وغبر بذلك حيناً من دهره ، ثم دخله زهو شديد ، وبغى على قومه لما هو فيه من عزة وانقياد معدّ له ، حتى بلغ من بغيه ، أنه كان يحمي مواقع السحاب فلا يرعى حماه ، وإذا جلس لا يمر أحد بين يديه إجلالاً له ، لا يختبئ أحد في مجلسه غيره ، ولا يغير إلا بإذنه ، ولا تورد إبل أحد ، ولا توقد مع ناره ، ولم يكن بكرى ولا تغلبي يجير رجلا ولا بعيراً أو يحمى إلا بأمره ، وكان يجبر على الدهر فلا تخفر ذمته ، وكان يقول : وحش أرض في جواري ، فلا يهاج ! وكان هو الذي ينزل القوم منازلهم ويرحلهم ، ولا ينزلون ولا يرحلون إلا بأمره ، وقد بلغ من عزته وبغيه أنه اتخذ جرو كلب ، فكان إذا نزل به كلأ قذف ذلك الجر وفيه فيعوى ، فلا يرعى أحد ذلك الكلأ إلا بإذنه ، وكان يفعل هذا بحياض الماء فلا يردها أحد إلا بإذنه أو من آذن بحرب ، فضرب به المثل في العز فقيل : أعز من كليب وائل ، وكان يحمى الصيد فيقول : صيد ناحية كذا وكذا في جواري فلا يصيد أحد منه شيئاً.

وتزوج كليب جليلة بنت مرة بن ذهل بن شيبان، وكان لمرة عشرين بنين جساس أصغرهم ، وكانت بنو جشم ، وبنو شيبان تقيم في دار واحدة إرادة الجماعة ومخافة الفرقة.

وحدث أن كليباً دخل على امرأته جليلة يوماً فقال لها: هل تعلمين على الأرض أمنع مني ذمة ؟ فسكتت، ثم أعاد عليها الثانية فسكتت، ثم أعاد عليها الثالثة فقالت: نعم، أخي جساس – وهو جساس بن مرة ، كان فارساً شهماً أبياً ، وكان يلقب الحامي الجار ، المانع الذمار ، وهو الذي قتل كليباً ، مات سنة 534 م - وندمانه، ابن عمه عمرة المزدلف بن أبى ربيعة بن ذهل ابن شيبان.فسكت كليب ، ومضت مدة ، وبينما هي تغسل رأسه وتسرحه ذات يوم إذ قال لها : من أعز وائل ؟ قالت: أخواي جساس وهمام. فنزع رأسه من يدها وخرج.

وكانت لجساس خالة اسمها البسوس بنت منقذ، جاءت ونزلت على ابن أختها جساس، فكانت جارة لبنى مرة، ولها ناقة خوارة، ومعها فصيل لها، فلما خرج كليب غاضباً من قول زوجه جليلة رأى فصيل الناقة فرماه بقوسه فقتله. وعلمت بنو مرة بذلك، فأغمضوا على ما فيه وسكتوا، ثم لقي كليب ابن البسوس فقال له: ما فعل فصيل ناقتكم ؟ فقال: قتلته وأخليت لنا لبن أمه، وأغمضت بنو مرة على هذا أيضاً.

ثم أن كليباً أعاد القول على امرأته فقال: من أعز وائل ؟ فقالت: أخواي ! فأضمرها في نفسه وأسرها وسكت، حتى مرت به إبل جساس وفيها ناقة البسوس، فأنكر الناقة، ثم قال: ما هذه الناقة ؟ قالوا: لخالة جساس. فقال: أو بلغ من أمر ابن السعدية – أي جساس - أن يجير عليّ بغير إذني ؟ ارم ضرعها يا غلام، فأخذ القوس ورمى ضرع الناقة، فاختلط دمها بلبنها.

وراحت الرعاة على جساس فأخبروه بالأمر، وولت الناقة ولها عجيج حتى بركت بفناء البسوس، فلما رأتها صاحت: واذلاه ! فقال لها جساس: اسكتي فلك بناقتك ناقة أعظم منها، فأبت أن ترضى حتى صاروا لها إلى عشر، فلما كان الليل أنشأت تقول – بخطاب سعداً أخا جساس وترفع صوتها تسمع جساساً:

يا أبا سعد لا تغرر بنفسك وارتحل. . فإني في قوم عن الجار أموات
ودونك أذوادي إليك فإنني. . محاذرة أن يغدروا ببنياتي
لعمرك لو أصبحت في دار منقذ لما ضم سعد وهو جار لأبياتي
ولكنني أصبحت في دار معشر متى يعد فيها الذئب يعدو وعلى شاتي

فلما سمعها جساس قال لها: اسكتي لا تراعي: إني سأقتل جملاً أعظم من هذه الناقة، سأقتل غلالاً - وهو فحل إبل كليب لم ير في زمانه مثله، وإنما أراد جساس بمقالته كليباً -.

ثم ظعن ابنا وائل بعد ذلك، فمرت بكر على نهى - أي غدير - يقال له شبيث ، فنفاه، كليب عنه وقال : لا يذوقون منه قطرة ، ثم مروا على نهى آخر يقال له الأحص ، فنفاهم عنه وقال : لا يذوقون منه قطرة ، ثم مروا على بطن الجريب - واد عظيم - فمنعهم إياه ، فمضوا حتى نزلوا الذنائب ، واتبّعهم كليب وحيه حتى نزلوا عليه ، فمر عليه جساس ومعه ابن عمه عمرو بن الحارث بن ذهل ، وهو واقف على غدير الذنائب ، فقال له : طردت أهلنا عن المياه حتى كدت تقتلهم عطشا ! فقال كليب : ما منعناهم من ماء إلا ونحن له شاغلون. فقال له : هذا كفعلك بناقة خالتي ، فقال له : أوقد ذكرتها أما إني لو وجدتها في غير إبل مرة لا ستحللت تلك الإبل بها ، أتراك مانعي أن أذب عن حماي ، فعطف عليه جساس فرسه فطعنه برمح فأنفذ حضني – الحضن مادون الإبط إلى الكشح- .

فلما تداءمه الموت قال: يا جساس ، اسقني من الماء. فقال : ما علقت استسقاءك الماء منذ ولدتك أمك إلا ساعتك هذه. فالتفت إلى عمرو وقال له: يا عمرو ، أغثني بشربة ماء ، فنزل إليه وأجهز عليه .

وأمال جساس يده بالفرس حتى انتهى إلى أهله على فرسه يركضه ، وقد بدت ركبتاه ، ولما رأته أخته قالت لأبيها : إن ذا لجساس آتى كاشفاً ركبتاه ، فقال : والله ما خرجت ركبتاه إلا لأمر عظيم.

فلما جاء جساس قال له : ما وراءك يا بني ؟ قال : ورائي أني قد طعنت طعنة لتشغلن بها شيوخ وائل زمنا. قال: وماهي ؟ لأمك الويل أقتلت كليبا؟ فقال : نعم ، فقال أبوه : إذن نسلمك بجريرتك ، ونريق دمك في صلاح العشيرة ، والله لبئس ما فعلت ! فرقت جماعتك، وأطلت حربها ، وقتلت سيدها في شارف من الإبل ، والله لا تجتمع وائل بعدها ، ولا يقوم لها عماد في العرب ، ولقد وددت أنك وإخوتك كنتم متم قبل هذا ، ما بي إلا أن تتشاءم بي أبناء وائل ، فأقبل قوم مرة عليه وقالوا : لا تقل هذا ولا نفعل فيخذلوه وإياك ، فأمسك مرة .

ولما قتل كليب اجتمع نساء الحي للمأتم، فقلن لأخت كليب: رحلي جليلة من مأتمك ، فإن قيامها فيه شماتة وعار علينا عند العرب ، فقالت لها : يا هذه ، اخرجي عن مأتمنا ، فأنت أخت واترنا وشقيقة قاتلنا ، فخرجت وهي تجر أعطافها ، فقالت لها أخت كليب : رحلة المعتدي وفراق الشامت ، ويل غداً لآل مرة ، من السكرة بعد السكرة، فبلغ قولها جليلة فقالت : وكيف تشمت الحرة بهتك سترها ، وترقب وترها ،أسعد الله جد أختي ، أفلا قالت : نفر الحياء ، وخوف الاعتداء .

ولما ذهبت إلى أبيها مرة قال لها: ما وراءك يا جليلة ؟ فقالت: ثكل العدد وحزن الأبد ، وفقد حليل ، وقتل أخ عن قليل ، وبين ذين غرس الأحقاد ، وتفتت الأكباد ، فقال لها : أو يكف ذلك كرم الصفح وإغلاء الديات ؟ فقالت: أمنية مخدوع ورب الكعبة أبا لبدن تدع لك تغلب دم ربها.

وكان همام بن مرة ينادم المهلهل أخا كليب وعاقده ألا يكتمه شيئاً. فلما ظعن مره بأهله أرسل إلى ابنه همام فرسه مع جارية ، وأمره أن يظعن ويلحق بقومه. وكانا جالسين، فمر جساس يركض به فرسه مخرجاً فخذيه، فقال همام : إن له لأمراً ، والله ما رأيته كاشفاً فخذيه قط في ركض ، ولم يلبث إلا قليلاً حتى انتهت الجارية إليها ، وهما معتزلان في جانب الحي. فوثب همام إليها، فسارته أن جساساً قتل كليباً، وأن أباه قد ظعن مع قومه، فأخذ همام الفرس وربطه إلى خيمته ورجع ، فقال له المهلهل : ما شأن الجارية والفرس ؟ وما بالك ؟ فقال: اشرب ودع عنك الباطل، قال: وما ذاك ؟ فقال: زعمت أن جساساً قتل كليباً، فضحك المهلهل، وشقال: همة أخيك أضعف من ذلك، فسكت. ثم أقبلا على شرابهما ، فجعل مهلهل يشرب شرب الآمن ، وهمام يشرب شرف الخائف ، ولم تلبث الخمر أن صرعت مهلهلا ، فانسل همام وأتى قومه من بنى شيبان ، وقد قوضوا الخيام ، وجمعوا الخيل والنعم ، ورحلوا حتى نزلوا بما يقال له النهى.

ورجع المهلهل إلى الحي سكران ، فرآهم يعقرون خيولهم ، ويكسرون رماحهم وسيوفهم ، فقال : ويحكم ما الذي دهاكم ؟ فلما أخبروه الخبر قال : لقد ذهبتم شر مذهب ، أتعقرون خيولكم حين احتجتم إليها ؟ وتكسرون سلاحكم حين افتقرتم إليه. فانتهوا عن ذلك، ورجع إلى النساء فنهاهن عن البكاء وقال: استبقين للبكاء عيوناً تبكى إلى آخر الأبد.

ولما أصبح غدا إلى أخيه فدفنه، وقام على قبره يرثيه ، وما زال المهلهل بيكي أخاه ويندبه ، ويرثيه بالأشعار ، وهو يجتزئ بالوعيد لبنى مرة ، حتى يئس قومه ، وقالوا : إنه زير نساء ، وسخرت منه بكر ، وهمت بنو مرة بالرجوع إلى الحمى ، وبلغ ذلك المهلهل فانتبه للحرب ، وشمر ذراعيه ، وجمع أطراف قومه ، ثم جز شعره ، وقصر ثوبه ، وآلى على نفسه ألا يهتم بلهو ولا يشم طيباً ، ولا يشرب خمراً ، ولا يدهن بدهن حتى يقتل بكل عضو من كليب رجلاً من بنى بكر بن وائل. وحث بنى تغلب على الأخذ بالثأر ، فقال له أكابر قومه : إننا نرى ألا تعجل بالحرب حتى نعذز إلى إخواننا ، فبالله ما تجدع بحرب قومك إلا أنفك ، ولا تقطع إلا كفك ! فقال: جدعه الله أنفاً ، وقطعها كفاً ، والله لا تحدثت نساء تغلب أني أكلت لكليب ثمناً ولا أخذت له دية ، فقالوا : لا بد أن تغض طرفك وتخفض جناحك لنا ولهم ، فكره المهلهل أن يخالفهم فينفضوا من حوله ، فقال: دونكم ما أردتم.

وانطلق رهط من أشرافهم وذوي أسنانهم حتى أتوا مرة بن ذهل فعظموا ما بينهم وبينه، وقالوا له: إنكم أتيتم أمراً عظيماً بقتلكم كليباً بناب من الإبل، وقطعتم الرحم، ونحن نكره العجلة عليكم دون الإعذار، وإننا نعرض عليكم إحدى ثلاث، لكم فيها مخرج ولنا مرضاة.

إما أن تدفعوا إلينا جساساً فنقتله بصاحبنا، فلم يظلم من قتل قاتله ، وإما أن تدفعوا إلينا هماماً فإنه ند لكليب ، وإما أن تقيدنا من نفسك يا مرة ، فإن فيك رضا القوم.

فسكت وقد حضرته وجوه بنى بكر بن وائل فقالوا: تكلم غير مخذول ، فقال: أما جساس فغلام حديث السن ركب رأسه ، فهرب حين خاف ، فوالله ما أدري أي البلاد انطوت عليه . وأما همام فأبو عشرة وأخو عشرة، ولو دفعته إليكم لصيح بنوه في وجهي وقالوا: دفعت أبانا للقتل بجريرة غيره. وأما أنا فلا أتعجل الموت ، وهل تزيد الخيل على أن تجول جولة فأكون أول قتيل ! لكن هل لكم في غير ذلك ؟ هؤلاء بنيّ فدونكم أحدهم فاقتلوه ، وإن شئتم فلكم ألف ناقة تضمنها لكم بكر بن وائل. فغضبوا وقالوا : إنا لم نأتك لترذل لنا بنيك ، ولا لتسومنا اللبن. ورجعوا فأخبروا المهلهل، فقال: والله ما كان كليب بجزور نأكل له ثمناً.

واعتزلت قبائل من بكر الحرب ، وكرهوا مساعدة بني شيبان ومجامعتهم على قتال إخوتهم ، وأعظموا قتل جساس كليباً بناب من الإبل ، فظعنت عجل عنهم ، وكفت يشكر على نصرتهم ، ودعت تغلب النمر من قاسط فانضمت إليها ، وصاروا يداً معهم على بكر ، ولحقت بهم عقيل بنت ساقط.

وكان الحارث بن عباد بن ضبيعة من قيس بن ثعلبة من حكام بكر وفرسانها المعدودين، فلما علم بمقتل كليب أعظمه ، واعتزل بأهله وولد إخوته وأقاربه ، وحل وتر قوسه ، ونزع سنان رمحه.

ووقعت الحرب بين الحيين، وكانت وقعات مزاحفات يتخللها مغاورات، وكان الرجل يلقى الرجل والرجلان والرجلين هكذا ، وأول وقعة كانت على ماء لهم يقال له النهى كان بنو شيبان نازلين عليه ، ورئيس تغلب المهلهل ورئيس شيبان الحارث بن مرة فكانت الدائرة لتغلب ، وكانت الشوكة في شيبان ، واستحر القتال فيهم ، إلا أنه لم يقتل ذلك اليوم أحد من بني مرة.

ثم التقوا بالذنائب فظفرت بنو تغلب ، وقتلت بكر مقتلة عظيمة ، ثم التقوا بواردات فظفرت بنو تغلب ، وكان جساس بن مرة وغيره طلائع قومهم وأبو نويرة التغلبي طلائع قومهم أيضاً ، فالتقوا بعض الليالي فقال له أبو نويرة : اختر إما الصراع أو الطعان ، أو المسايفة – أي التضارب بالسيوف- ، فاختار جساس الصراع فاصطرعا ، وأبطأ كل واحد منهما على أصحاب حيه ، وطلبوهما فأصابوهما وهما يصطرعان ، وقد كاد جساس يصرعه ففرقوا بينهما.

ثم التقوا بعنيزة فتكافأ الحيان، ثم التقوا بالقصيبات وكانت الدائرة على بكر ، وقتل في ذلك اليوم همام بن مرة أخو جساس ، فمر به مهلهل مقتولاً فقال له : والله ما قتل بعد كليب قتيل أعز عليّ فقداً منك.

ثم كانت بينهم معاودة ووقائع كثيرة، كل ذلك كانت الدائرة فيها لبنى تغلب، ثم إن تغلب جعلت جساساً أشد الطلب، فقال له أبوه مرة: الحق بأخوالك بالشام، فامتنع، فألح عليه أبوه فسيره سراً في خمسة نفر ، وبلغ الخبر مهلهل ، فندب أبا نويرة ومعه ثلاثون رجلاً من شجعان أصحابه ، فساروا مجدين، فأدركوا جساساً فقاتلهم ، فقتل أبو نويرة وأصحابه ولم يبق منهم غير رجلين ، وجرح جساس جرحاً شديداً مات منه ، وقتل أصحابه فلم يسلم غير رجلين أيضاً، فعاد كل واحد من السالمين إلى أصحابه.

فلما سمع مرة بقتل ابنه جساس قال: إنما يحزنني أن كان لم يقتل منهم أحداً، فقيل له: إنه قتل بيده أبا نويرة رئيس القوم، وقتل معه خمسة عشر رجلاً ما شركه أحد منا في قتلهم، وقتلنا نحن الباقين، فقال: ذلك مما يسكن قلبي عن جساس.

فلما قتل جساس أرسل أبوه مرة إلى مهلهل: إنك قد أدركت ثأرك وقتلت جساساً فاكفف عن الحرب، ودع اللجاج والإسراف، فهو أصلح للحيين وأنكأ لعدوهم، فلم يجب إلى ذلك.

ثم إن بنى بكر اجتمعوا إلى الحارث بن عباد، وقالوا له: قد فني قومك ! فأرسل بجيراً ابن أخيه إلى مهلهل وقال له: قل له: إني قد اعتزلت قومي لأنهم ظلموك، وخليتك وإياهم ، وقد أدركت ثأرك وقتلت قومك. فأتاه بجبر فهمّ المهلهل بقتله ، فقال له امرؤ القيس بن أبان – وكان من أشراف بنى تغلب وكان على مقدمتهم زمناً - : لا تفعل ، فوالله لئن قتله ليقتلن به منكم كبش ، لا يسأل عن خاله من هو ؟ وإياك أن تحقر البغي ، فإن عاقبته وخيمة ، وقد اعتزلنا عمه وأبوه وأهل بيته. فأبى مهلهل إلا قتله، فطعنه بالرمح وقتله وقال له: (بؤ بشسع نعل كليب)! فلما بلغ قتله الحارث – وكان من أحلم أهل زمانه وأشدهم بأساً- قال: نعم القتيل قتيل أصلح بين ابني وائل ! فقيل له: إنما قتله بشسع نعل كليب، فلم يقبل ذلك.

وأرسل الحارث إلى مهلهل: إن كنت قتلت بجير بكليب، وانقطعت الحرب بينكم وبين إخوانكم فقد طابت نفسي بذلك. فأرسل إليه مهلهل: إنما قتلته بشسع نعل كليب ! فغضب الحارث ودعا بفرسه – وكانت تسمى النعامة – فجز ناصيتها وهلب ذنبها- الهلب: الشعر كله وقيل في الذنب وحده -.

ثم ارتحل الحارث مع قومه، حتى نزل مع جماعة بكر بن وائل، وعليهم يومئذ الحارث بن همام، فقال الحارث بن عباد له : إن القوم مستقلون قومك ، وذلك زادهم جرأة عليكم ، فقاتلهم بالنساء ، قال له الحارث بن همام : وكيف قتال النساء ؟ فقال : قلد كل امرأة إداوة من ماء ، وأعطها هراوة ، واجعل جمعهن من ورائكم ، فإن ذلكم يزيدكم اجتهاداً ، وعلموا قومكم بعلامات يعرفنها ، فإذا مرت امرأة على صريع منكم عرفته بعلامته فسقته من الماء ونعشته ، وإذا مرت على رجل من غيركم ضربته بالهراوة فقتلته ، وأتت عليه.

فأطاعوه، وحلقت بنو بكر يومئذ رؤوسها، استبسالاً للموت ، وجعلوا ذلك علامة بينهم وبين نسائهم ، وقال جحدر بن ضبيعة- وإنما سمي جحدراً لقصره - : لا تحلقوا رأسي ، فإني رجل قصير ، ولا تشينوني ، ولكن أشتريه منكم بأول فارس. يطلع عليكم من القوم، فطلع ابن عناق فشد عليه فقتله.

واقتتل الفرسان قتالا شديداً ، وانهزمت بنو ثغلب ، ولحقت بالظعن بقية يومها وليلتها ، واتبعهم سرعان بكر بن وائل ، وتخلف الحارث بن عباد ، فقال لسعد بن مالك : أتراني ممن وضعته الحرب ! فقال : لا ، ولكن لا مخبأ لعطر بعد عروس.

وأسر الحارث مهلهلاً بعد انهزام الناس وهو لا يعرفه، فقال له: دلني على المهلهل. قال: ولي دمي ؟ فقال: ولك دمك، قال: ولى ذمتك وذمة أبيك ؟ قال: نعم ، ذلك لك. قال المهلهل- وكان ذا رأي ومكيدة- : فأنا مهلهل خدعتك عن نفسي ، والحرب خدعة، فقال : كافئني بما صنعت لك بعد جرمك ودلني على كفء لبجير ، فقال : لا أعلمه إلا امرأ القيس بن أبان ، هذاك علمه. فجز ناصيته وأطلقه ، وقصد امرئ القيس فشد عليه فقتله .

فلما رجع مهلهل بعد الوقعة والأسر إلى أهله جعل النساء والوالدان يستخبرونه: تسأل المرأة عن زوجها وابنها وأخيها، والغلام عن أبيه وأخيه ،ثم إن مهلهلاً قال لقومه : قد رأيت أن تبقوا على قومكم ، فإنهم يحبون صلاحكم ، وقد أتت على حربكم أربعون سنة ، وما لمتكم على ما كان من طلبكم ، فلو مرت هذه السنون في رفاهية عيش لكانت تمل من طولها ، فكيف وقد فني الحيان وثكلت الأمهات ويتم الأولاد ، ورب نائحة لا تزال تصرخ في النواحي ، ودموع لا ترفأ ، وأجساد لا تدفن ، وسيوف مشهورة ، ورماح مشرعة ، وإن القوم سيرجعون إليكم غداً بمودتهم ومواصلتهم ، وتتعطف الأرحام حتى تتواصوا ، أما أنا فما تطيب نفسي أن أقيم فيكم، ولا أستطيع أن أنظر إلى قاتل كليب، وأخاف أن أحملكم على الاستئصال ، وأنا سائر عنكم إلى اليمن.

ثم خرج حتى لحق بأرض اليمن، فخطب إليه أحدهم ابنته فأبى أن يفعل، فأكرهوه وساقوا إليه أدَماً في صداقها فأنكحها إياه ، وكان قد بلغ قبائل بكر وتغلب زواج سليمى في مذحج ، وكان بين القومين منافسة ونفور، فغضبوا وأنفوا، وقصدوا بلاد القوم فأخذوا المرأة وأرجعوها إلى أبيها بعد أن أسروا زوجها.

وملت جموع تغلب الحرب فصالحوا بكراً، ورجعوا إلى بلادهم ، وتركوا الفتنة ، ولم يحضر المهلهل صلحهم ، ثم اشتاق إلى أهله وقومه ، ولجت عليه ابنته سليمي بالمسير إلى الديار ، فأجابها إلى ذلك ، ورجع نحو قومه ، حتى قرب من قبر أخيه كليب ، وكانت عليه قبة رفيعة ، فلما رآه خنقته العبرة ، وكان تحت بغل نجيب، فلما رأى البغل القبر في غلس الصبح نفر منه هارباً ، فوثب عنه المهلهل ، وضرب عرقوبيه بالسيف ، وسار بعد ذلك حتى نزل في قومه زماناً ، وما وكده – أي قصده - إلا الحرب ، ولا يهم بصلح ، ولا يشرب خمراً ، ولا يلهو بلهو ، ولا يحل لأمته ، ولا يغتسل بماء ، حتى كان جليسه يتأذى منه من رائحة صدأ الحديد.

فلما كان ذات يوم دخل عليه رجل من تغلب اسمه ربيعة بن الطفيل، وكان له نديماً، فلما رأى ما به قال : أقسمت عليك أيها الرجل لتغتسلن بالماء البارد ، ولتبلن ذوائبك بالطيب ! فقال المهلهل: هيهات ! هيهات ! يا بن الطفيل ، هبلتني إذا يميني ، وكيف باليمين التي آليت ! كلاً أو أقضي من بكر أربى ، ثم تأوه وزفر .

ونقض الصلح، وعادت الحرب، ثم إن المهلهل أغار غارة على بنى بكر، فظفر به عمرو بن مالك أحد بنى قيس بن ثعلبة، فأسره وأحسن إساره، فمر عليه تاجر يبيع الخمر - وكان صديقاً للمهلهل- فأهدى إليه وهو أسير زقاً من خمر، فاجتمع شبان من قيس بن ثعلبة ونحروا عنده بكراً، وشربوا عند مهلهل في بيته الذي أفرد له ، فلما أخذ فيهم الشراب تغنى مهلهل بشعر ناح فيه على أخيه.

فلما سمع عوف ذلك غاظه وقال: لا جرم إن الله على نذراً، إن شرب عندي قطرة ماء ولا خمر حتى يورد الخضير – أي لا يشرب شيئاً قبل خمسة أيام -، فقال له أناس من قومه: بئس ما حلفت ! فبعثوا الخيول في طلب البعير فأتوا به بعد ثلاث أيام، وكان المهلهل مات عطشاً.