بلال الزين (*)
أثارت المسائل التي طرحتها جريمة اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري والنتائج القانونية التي تلت جدلاً على الصعيدين القانوني والسياسي، ما يعنينا في هذا البحث هو الجانب القانوني للموضوع بحثاً وتحليلاً واستنتاجاً.
من أهم النقاط المثارة هي الآتية: السمة الدولية للجريمة ـ والمسائل القانونية التي أثارها النظام الأساسي للمحكمة الخاصة بلبنان لا سيما: مسؤولية الرئيس عن أعمال المرؤوسين، والمحاكمات الغيابية، صلاحيات الدولة المضيفة للمحكومين، ومحاكمة المتهمين أمام قضاء دولتهم.
تمهيد: في ما يتعلق بالسمة الدولية للجريمة: السؤال المطروح هو لماذا أصبحت هذه الجريمة دولية؟ هناك عناصر عدة أدت الى هذه النتيجة.
العنصر الأول: هو التغير بالمفاهيم القانونية الدولية بأن أصبحت جرائم الإرهاب من الجرائم الدولية التي تهدد السلام والأمن الدوليين.
العنصر الثاني: عدم قدرة القضاء اللبناني على الاضطلاع بمهمته من دون مساعدة دولية تقنية وقانونية، بالإضافة الى الصعوبات الناتجة عن مسألة حصانة الدول والمسؤولين فيها، فيما لو تبيّن تورّط جهات خارج حدود الدولة بالجريمة.
العنصر الثالث: الاشتباه بتورط جهات خارج إطار الدولة اللبنانية ما دفع الى طلب المساعدة الدولية بهذا الشأن.
العنصر الرابع: قبول الحكومة اللبنانية للمساعدة الدولية.
العنصر الخامس: إقرار مجلس الأمن الدولي بضرورة التدخل والمساعدة الفنية والقانونية في الجريمة.
من هنا اكتسبت هذه الجريمة سمة الجريمة الدولية، وحتمت التدخل الدولي على أكثر من صعيد عبر العديد من القرارات الدولية لا سيما القرارات: 1636 و1644 و1664 و1595.
أما ما يتعلق بالعناصر القانونية: للنظام الأساسي للمحكمة الخاصة بلبنان التي أنشئت بموجب القرار رقم 1664 ووضع لها مشروع النظام الأساسي، فقد تشابك فيها النقاش السياسي بالنقاش القانوني تبعاً لما لهذه القضية من انعكاسات سياسية وقانونية دولية ومحلية. وأهم هذه المسائل تمحورت حول العناوين الآتية: مسؤولية الرئيس عن أعمال المرؤوسين، والمحاكمات الغيابية، صلاحيات الدولة المضيفة للمحكومين، ومحاكمة المتهمين أمام قضاء دولتهم.
أولاً: مسؤولية الرئيس عن أعمال مرؤوسيه:
أقر النظام الأساسي في المادة 3 منه مبدأ أن الرئيس يسأل عن أعمال جرمية مباشرة أو غير مباشرة عن طريق أعمال قام بها مرؤوسون تحت سلطته، فيما إذا علم بأن هذه الأعمال وشيكة الوقوع وعلى الرغم من ذلك سكت عنها أو أهمل متابعتها.
إذا كانت المسؤولية الجزائية في القوانين الوطنية تقوم أساساً بالفعل المباشر أو بالتدخل والاشتراك والتحريض على الجريمة فإن الرؤساء وفق هذه القوانين يسألون بنفس المعنى مع الفارق بالإجراءات القضائية الواجب اتباعها لمحاكمة الرؤساء وذوي الحصانات. ولكن المشكلة تطرح على صعيد المفاهيم الدولية للجريمة، خصوصاً تلك التي تتسم بطابع التنظيم والتي تأتي في إطار المشروع الجرمي الواحد، فالمسؤولية الجزائية هنا تصبح أكثر تشدداً على الصعيد الدولي، وتصبح مسؤولية القادة عن أعمال المرؤوسين متوفرة نتيجة علم القائد أو الرئيس بأن أفراد الجهاز لديه أو أحدهم على وشك ارتكاب فعل جرمي ولم يحل دونه بما لديه من سلطة الأمر والقرار، وهذا الواقع القانوني لم يكن كذلك في القانون الدولي بل أنه تطور في العديد من الاتفاقيات الدولية التي تبنّت مفاهيم المسؤولية.
تعتبر الاتفاقيات الدولية أحد أهم مصادر القانون الدولي، وإذا ما تبنّت مبدأ وسارت عليه يستقرّ في التعامل ويرتقي الى مصاف القاعدة العرفية التي تصبح جزءا من قواعد القانون، وهذا ما نلاحظه بالنسبة لتطور قاعدة مسؤولية الرؤساء، وذلك في عدد من الاتفاقيات الدولية المتعلقة بالقانون الجنائي الدولي كما يلي:
من أولى الاتفاقيات التي تبنّت هذا المبدأ بشكله المحصور هي النظام لأساسي لمحكمة نورنبرغ الصادر عقب الحرب العالمية الثانية، التي جاءت بالنص الآتي:
Principle III
"The fact that a person who committed anact which constitutes a
crime under international law acted as a head ofstate or responsible
government official does not relive him from responsibility under
international law"
ثم جاءت إتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها 1948 التي نصت في المادة الثالثة منها على معاقبة كل من يرتكب فعل التآمر على ارتكاب إحدى جرائم الإبادة الجماعية، كما اعتبرت هذه الاتفاقية أن الصفة الرسمية أو المنصب الدستوري لا يمنع من محاسبة هؤلاء ومعاقبتهم وذلك في المادة 4 من الاتفاقية.
واتفاقية جنيف لتحسين حال الجرحى والمرضى بالقوات المسلحة في الميدان 1949، لم تختلف عن هذا التوجه لا سيما لجهة عدم الاعتداد بالصفة الرسمية لمرتكبي أفعال انتهاك حقوق الجرحى، إلا أنها لم توسع مفهوم المسائلة عن انتهاك القانون الجنائي الدولي كما حصل بعد ذلك مع اتفاقية منع تقادم جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية للعام 1968 الذي شكل تحولاً مفصلياً بمفاهيم لمساءلة الجنائية.
إنطلاقاً من هذا التاريخ بدأ يتغير شكل مساءلة الرؤساء والقادة عن أعمال المرؤوسين وتم التشدّد في وصف شكل العمل الذي قام به الرئيس أو لم يقم به لاعتباره مسؤولاً وبدأت قاعدة المساءلة على أساس العلم وعدم اتخاذ الإجراءات الملائمة لمنع الجرائم، حيث نصّت الاتفاقية في المادة 2 منه على مسؤولية مرتكبي هذه الجرائم والمتدخلين والمحرّضين والمتآمرين بصرف النظر عن درجة التنفيذ، وعلى ممثلي سلطة الدولة الذين يتسامحون في ارتكابها".
ومنذ ذلك التاريخ انسحبت القاعدة على عدد من الاتفاقيات الدولية المتعلقة بالتنظيم الجنائي الدولي كما حصل في النظام الأساسي للمحكمة الخاصة بروندا ورد في المادة السادسة منها اعتبار أن المنصب الرسمي لا يعفي من المسؤولية والعقاب، وأضافت أن الرئيس يسأل عن أفعال مرؤوسيه إذا لم يعلم أو كان يجب أن يعلم بأنها وشيكة الوقوع ولم يتخذ الرئيس التدابير الضرورية المعقولة لمنع ارتكاب تلك الأفعال أو معاقبة مرتكبيها.
وفي العام 1984 جاءت اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، لتتبنى القاعدة نفسها في المادتين 1 و16 مع إضافة حالة سكوت الرئيس عن ارتكاب هذه الأفعال وليس فقط اتخاذه التدابير لمنعها وهو ما شكل توسيعاً لإطار المساءلة.
وقد تكرّست هذه القاعدة وأصبحت ثابتة في النظام الجنائي الدولي عبر نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية 17/7/1998 في المواد 28 الذي يعتبر أكثر شمولاً حيث تبنى فكرة جديدة بحيث يسأل الرئيس عندما لا يمارس سلطته الفعلية على مرؤوسيه مما يؤدي الى ارتكاب إحدى الجرائم المنصوص عنها في النظام.
ثانياً: تنفيذ العقوبات بحسب مشروع نظام المحكمة الخاصة بلبنان
ـ بالنسبة للعفو وتخفيف الأحكام
إن المسائل المرتبطة بالمعاقبة وما يتبعها في ما يتعلق بتشديد وتخفيف العقوبات والعفو العام تبقى خاضعة للقانون اللبناني، ولا اختصاص مبدئياً لأي أحكام قانونية أخرى كدولة تنفيذ العقوبة، إلا أن مشروع النظام ألزم دولة تنفيذ العقوبة بإعلام رئيس المحكمة بأي قواعد تتعلق بتخفيف العقوبة أو بالعفو، ولا يجوز لهذه الدولة أن تطبق أياً من هذه القواعد إلا إذا قرر رئيس المحكمة ذلك بالتشاور مع القضاة على أساس مقتضيات العدالة ومبادئ القانون العامة (المادة 30 من مشروع النظام).
إلا أن السؤال الذي يُطرح، ما هو مصير هذه القاعدة عندما تنتهي فترة عمل المحكمة؟ أي هل يعود لرئيس المحكمة مثل هذه الصلاحية؟
وبرأينا يجب أن تنتقل هذه الصلاحية الى القضاء اللبناني تبعاً لمبدأ الاختصاص المشترك الوارد في المادة 4 من مشروع النظام الأساسي، فإن كانت المحكمة الخاصة تتقدم بالاختصاص على القضاء الوطني إلا أن النظام لم يلغِ صلاحية القضاء اللبناني.
ثالثاً: الأحكام الغيابية
أمام الصعوبة الناجمة عن إحضار بعض المتهمين لما لهم من أوضاع خاصة إن كان من ناحية الحصانة أو من ناحية السلطة والحماية التي قد تتأمن له في دولته ما قد يجعل من عدم حضوره عائقاً في سبيل سير العدالة الجنائية، ويصبح تعطيل المحاكمة في متناول يده، وهو ما يجعل من المحاكمة الغيابية وإن كان أمراً غير محمود حلاً لا بد منه لسير العدالة، كما سيتبيّن في ما سيلي، إلا أن المبادئ الدولية المستقرة وضعت ضمانات عديدة لتأمين أقصى حدّ من تمكين المتهم الدفاع عن نفسه وحضور المحاكمات.
فلا يمكن السير بالمحاكمة الغيابية أو أي إجراءات بغياب المتهم ما لم تتأمن له الضمانات الآتية:
ـ ضمان إبلاغه بالوسائل المتاحة كافة.
ـ التثبت من تمنّعه أو رفضه حضور المحاكمة.
هذه المبادىء اصبحت سائدة بعدما تعذر استبعاد المحاكمات الغيابية نهائياً من المحاكمات الجنائية الدولية فقد وردت هذه القاعدة في نظام روما الاساسي للمحكمة الجنائية الدولية في المواد 61 و63 و76 منه.
وفي مشروع نظام المحكمة الخاصة بلبنان نصت على المحاكمة الغيابية المادة 22 منه.
الا ان السؤال الذي يطرح، ما هو مصير هذه القاعدة عندما تنتهي فترة عمل المحكمة؟ اي هل يعود للمحكمة مثل هذه الصلاحية؟ برأينا يعود الاختصاص الى القضاء اللبناني كما اشرنا فيما سبق.
رابعاً: ما هو الحال اذا تمت محاكمة احد المتهمين امام قضاء دولته؟
ان المسألة تطرح عندما تكون المحاكمة قائمة امام قضاء دولة أخرى.
من المبادئ الاساسية في كل المحاكمات الدولية الجنائية هو ان المحاكم الوطنية هي صاحبة الاختصاص لاجراء المحاكمة حول جرائم واقعة في اقليمها او مترتكبة من احد رعاياها.
ـ الا ان هذه القاعدة تتغير عندما تضع الأمم المتحدة يدها على جريمة معينة وتقرر التحقيق والمحاكمة، فلا يمكن لاي دولة او جهاز انتزاع الاختصاص من يدها وذلك انطلاقاً من الاعتبارات التالية:
ـ وطالما اكدت على هذا المبدأ انظمة المحاكم الدولية الخاصة وكذلك نظام المحكمة الجنائية الدولية، وهذا المبدأ ناتج عن القواعد التالية:
* ان قواعد القانون الدولي ولا سيما قرارات مجلس الامن لها الأسبقية القانونية على الاجراءات الوطنية، تبعاً لسمو قواعد القانون الدولي ولا سيما القرارات الالزامية لمجلس الأمن.
* القرار الصادر من مجلس الأمن رقم 1636 تاريخ 31/10/2005 الذي اكد على الدول وجوب التزام التعاون مع التحقيق الدولي بالنسبة للوضع في لبنان، وتلاها قراره الذي قرر بموجبه انشاء المحكمة الخاصة التي ستضع يدها على القضية، وبالتالي فان اي اجراء قضائي لا يكون له اثر لانه سيشكل انتهاكاً للالتزامات الدولية.
* المحاكمة الوطنية لا تلزم المحكمة الخاصة لا سيما اذا ما توافرت في المحاكمة العناصر التالية مجتمعة:
ـ اجراؤها من دولة المهتم، لتغطية او منه تسليمه الى المحكمة الخاصة.
ـ ظهور اشارات جدية حول الرغبة بالتغطية على الفاعلين الحقيقيين او باجراء محاكمة صورية لتعطيل دور المحكمة، او لتضليل التحقيق.
هذا واذا اخذنا بعين الاعتبار مبدأ سبق الملاحقة، واسبقية صلاحية القضاء الواضع يده على الدعوى، نجد بأن لجنة التحقيق الدولية، وهي لجنة قضائية، قد وضعت يدها على الجريمة وباشرت التحقيق وبالتالي لم يعد ممكناً نزع الصلاحية منها لصالح أي جهة أخرى عملاً بمبدأ اسبقية الملاحقة.
في كل الأحوال فان الاجراءات الوطنية لا تلزم الأمم المتحدة بشيء، ولا تعطل قراراً قد يتخذه مجلس الأمن لغاية متابعة اعمال التحقيق والمحاكمة.
خامساً: تعيين القضاة
بحسب النظام الاساسي للمحكمة الخاصة يعود امر تعيين قضاة المحكمة للامين العام للامم المتحدة، بالتشاور مع الحكومة اللبنانية.
الا ان الأمين العام ملزم بمبادئ يقتضي احترامها عند قيامه بالتعيين، لا سيما:
اعتماد النزاهة والسيرة الحسنة.
ـ اختيار القضاة من الذين يتمتعون بقدر عال من الكفاءة العلمية والخبرة.
ـ اختيارهم من الترشيحات التي تقدمها الدول.
ـ يتم اختيار القضاة بواسطة لجنة اختيار مؤلفة من قاضيين عاملين في احدى المحاكم الدولية او المتقاعدين من هؤلاء القضاة، وتوصية هذه اللجنة تلزم الأمين العام كما جاء في المادة 2 من النظام، في الفقرة "د" البند (5) حيث قررت أن الأمين العام يعين القضاة بناء على توصية لجنة التعيين، ما يعني ان تعيين الأمين العام للقضاة لا يمكن الا ان يكون بناء على هذه التوصية ولا يمكن اعتماد وسيلة اخرى لم ينص عليها النظام الاساسي.
لقد وضع النظام معايير اساسية لتعيين القضاة الا ان ضمانة اختيار قضاة يتمتعون بالنزاهة والكفاءة العلمية والخبرة وعدم انتمائهم الى جهات أو دول تثير رفضاً او تحفظاً يبقى في اطار الضمانة السياسية.
خاتمة
ان نظام المحكمة الخاصة بلبنان يمكن أن يوصف بتعبير القديم الجديد، فهو من جهة أولى لم يخرج عن السائد في العرف والقانون الدولي لجهة العناصر الاساسية لتكوين المحاكم الخاصة، الا انه راعى التطور القانوني لجهة المفاهيم المتجددة لاصول المحاكمة والمبادئ الاساسية فيها وضماناتها، خصوصاً بعد التطور الجديد الذي ارساه النظام الاساسي للمحكمة الجنائية الدولية ICC بتعداد مفصل للجرائم التي تدخل في اطار القانون الجنائي الدولي وطبيعة المسؤولية الجنائية والاشخاص المتهمين فيها، وخصوصاً مبدأ المساعدة الدولية على المقاضاة والمحاكمة عند عجز أو عدم رغبة الدول في التحقيق والمحاكمة، أو بتبنيه لشكليات المحاكمة ان كان ما يتعلق بالتبليغ والوجاهية، او ما يتعلق بمرور الزمن على الجرائم الدولية.
ومن جهة ثانية، يعتبر تشكيل المحكمة فتحاً جديداً من نوعه، كونها المحكمة الدولية الأولى التي تتناول هذا الشكل من الجرائم على مر التاريخ، فهي جريمة ارهاب استهدفت بشكل مباشر شخصاً محدداً بصورة رئيسية، وللجريمة طابع سياسي وليس عسكرياً. الا انها راعت خصوصية الواقع اللبناني من حيث القانون المطبق والقواعد المتعلقة بعناصر الجريمة.
(*) محام
*** المقالات التي ننشرها تعبر عن آراء أصحابها ولا نتحمل مسؤولية مضمونها***