هل يقع التحقيق الدولي في فخ المخابرات الاسرائيلية
( حارس القصر ) في شباك ميليس
الكفاح العربي 23/04/2005
جاد بعلبكي
الكلام لم يعد لبساً، صار واضحاً بشكله ومضمونه (نملك معلومات مفادها ان مصطفى حمدان قائد الحرس الجمهوري هو أحد الذين اعطوا اوامر لتغيير مسرح الجريمة، مباشرة بعد الاعتداء. لماذا تم تنظيف مسرح الجريمة؟ هل حصل ذلك عمداً او اهمالاً او كلاهما معاً؟ لدينا اليوم مشتبه به هو مصطفى حمدان، بعدما استجوبنا اكثر من مئة شخص).
ما قصة هذه الشبهة؟ ما هي الحقائق اللاحقة التي يمكن ان يكشف عنها ديتليف ميليس رئيس لجنة التحقيق الدولية في اغتيال الحريري؟ ومَنْ سوف يسقط في حفرة الانفجار في الاسابيع المقبلة؟.
إن تسليط الضوء على قائد الحرس الجمهوري مصطفى حمدان بصفته «المشتبه به الأول»، لم يفاجئ احداً من المراقبين السياسيين والأمنيين والقضائيين في لبنان، ورئيس لجنة التحقيق الدولية لم يتهم لأنه لا يملك صلاحية توجيه اي اتهام، والاتهام النهائي يفترض ان يصدر عن القضاء اللبناني، عندما تكتمل عناصر التحقيق. لكن «حارس القصر» الذي أمر او شارك في العبث بمسرح الجريمة بات رجلاً مشبوهاً، ودفاع رئيس الجمهورية عن حارسه، اكثر من مرة حتى الآن، هو دفاع عن رجل مشبوه... حتى يثبت العكس.
وما لم يقله رئيس فريق التحقيق الدولي، بشكل سؤال وجواب في حديثه الى جورج مالبرونو مراسل صحيفة «لو فيغارو» الفرنسية المقربة جداً من الرئيس الفرنسي جاك شيراك قاله في التحقيق الذي نشرته الصحيفة الى جانب الحديث:
بين الحادية عشرة ليلاً والثالثة فجراً من الليلة التي تلت الاغتيال، قامت الرافعات بازالة السيارات الست التابعة لموكب الحريري، بينما شرعت الجرافات تردم الحفرة التي خلفها الانفجار... اختفت أدلة كثيرة، وقررت لجنة التحقيق مقاربة المشكلة بطريقة معكوسة، على اساس ان الذين أمروا بتخريب ساحة الجريمة سيقودون الى المحرضين على الاعتداء، والذين لديهم مصلحة في حمايتهم؟
من امر برفع الانقاض وطمر الحفرة؟
تحقيق لو فيغارو اذا افترضنا ان مالبرونو تولى بنفسه الاستجوابات يقول ان اللواء علي الحاج قائد قوى الأمن الداخلي هو الذي أعطى الاوامر. واللواء الحاج في محاولة لتغطية رؤسائه ادعى ان وزير الاشغال العامة ياسين جابر هو الذي طلب «تنظيف» مسرح الجريمة، وجابر قال ان مصطفى حمدان طلب ردم الحفرة وإزالة الأنقاض. هذا ما ورد في تحقيق «الفيغارو»، ونفاه لاحقاً الوزير ياسين جابر.
حتى إشعار آخر، مصطفى حمدان هو المشتبه فيه الأول، لكنه ليس الوحيد، وربما كشفت الاستجوابات المقبلة ان «فوقه» مسؤولين آخرين، في الهرم الامني او الهرم السياسي، او كليهما معاً. وهذه الشبهة لا تكفي في اي حال لاتهامه مباشرة باغتيال الحريري، ولا يزال يتعين على ميليس وفريقه التوصل الى سلسلة المحرضين والآمرين. ومصطفى حمدان قد يكون تصرف بدافع الاهمال، لا اكثر، في غياب النية الجرمية، لكن كل هذا ليس موضع بحث الآن. الرجل مشبوه او مشتبه به او لنقل انه اول المشبوهين، والمراحل اللاحقة من التحقيق سوف تقود الى معرفة المزيد حول دوره الحقيقي في تحضير الجريمة او التغطية على الفاعلين. وديتيلف ميليس هنا واضح جداً (ان اغتيال الحريري لا يشبه الاعتداءات الانتحارية التي لا يمكن محاكمة مرتكبيها في قضية الحريري يمكن محاكمة مشتبه بهم).
وما لم يرد في الحديث كما في التحقيق، يمكن تلمسه من بعيد او قريب، في ملاحـظات اخرى ومعاينات ميدانية وسياسية معاً. ميليس يقول «انهم يريدون حماية من يقف وراء الاعتداء»، والسفير اللبناني السابق جوني عبدو يستغرب اصرار رئيس الجمهورية على حماية العميد حمدان، بعدما تخلى عن قادة الأجهزة الآخرين الى جانب عدنان عضوم النائب العام التمييزي. وفي هذا السياق يوضح ان لواء الحرس الجمهوري تابع قانوناً وتراتبياً لقيادة الجيش اللبناني، والدفاع عنه من قبل رئاسة الجمهورية يعني انه لواء يشكل جيشاً رديفاً للجيش اللبناني ولا علاقة لقيادته به، وهو بالتالي يتمتع باستقلالية تامة، على الصعيد العملاني.
ويستغرب عبدو كيف ان قائد الجيش السابق الرئيس لحود لم يسمح على الاطلاق، في عهد الرئيس الياس الهراوي، بأن يكون قائد الحرس الجمهوري تابعاً لقيادة الرئيس مباشرة، وكيف انه يصر اليوم على حماية حمدان، دون جميع الذين كان لهم دور في عملية اغتيال الحريري... ويضيف «اليوم توصلت اللجنة الى شيء، وسيكون لنتائج التحقيق دوي يفوق دوي الانفجار الذي قتل الحريري».
ومن الواضح ان «حارس القصر» الذي وقع في شباك ميليس بعد شهر على التحقيقات، لم ينزلق بعد الى حفرة الانفجار بصورة كاملة حتى الآن، ورئيس الجمهورية الذي توقف عن الدفاع عن حارسه، عقب تصريحات ميليس الاخيرة، لم يقطع الأمل بعد من محاولة إنقاذه، والاتصالات التي قام بها طوال الايام الاخيرة، مع السفير اللبناني في واشنطن فريد عبود، هي التي ادت الى توضيحات رئيس مركز الاعلام الاقليمي للأمم المتحدة في لبنان نجيب فريجي، وهي توضيحات لم توضح في النهاية شيئاً.
ودفاع لحود عن حمدان يعتبر طبيعياً الى حد بعيد، والعكس قد يكون مستهجناً. لواء الحرس الجمهوري، كما قلنا، قوة مستقلة عن الجيش على مستوى الممارسة، ولو انه قانوناً تابع لقيادة الجيش، وهو مسلح تسليحاً كاملاً لأن الرئيس لحود أراده كذلك. ومصطفى حمدان نفسه يتمتع بكفاية ادارية عالية، وهو الأقرب الى عقل وقلب اميل لحود.
وفي المعلومات ان لجنة التحقيق الدولية قد تضطر في نهاية المطاف الى اخضاع نجل الرئيس لحود رالف الى الاستجواب، في ضوء معلومات تقول انه شريك لحمدان في شركة أمنية تؤمن الحراسات لجانب مهم من منطقة الفنادق التي شهدت عملية الانفجار. والمعلومات تقول ان الشركة سيكورتي فاس قد لا تكون مسجلة باسم رالف ومصطفى لكن التحقيق وحده سوف يؤكد او ينفي مثل هذا التعاون.
تبقى اشارة لا بد منها، تتعلق بدور محتمل للواء الحرس الجمهوري في التمويه على مكان الجريمة، وهي معلومة وردت على لسان رئيس «اللقاء الديمقراطي» وليد جنبلاط، خلال مقابلة تلفزيونية، قال فيها انه عثر في مكان الاغتيال على مسدس لا يتوفر الا مع عناصر لواء الحرس الجمهوري الذي يرأسه حمدان.
يومها تلقى الوسط السياسي اللبناني هذه المعلومة من دون اهتمام حقيقي، لكنها تتسم اليوم بأهمية خاصة، لأنها قد تشكل دليلاً حسياً في ملف التحقيق.
المواجهة السياسية
وبصرف النظر عن الفصول اللاحقة في تحقيق ميليس، على المستويين الامني والسياسي، فإن الاشتباه بدور قائد الحرس الجمهوري هو في حد ذاته بداية زلزال سياسي يمكن ان يطيح بمعادلات ورؤوس عدة. وفي لحظة الافراج عن سمير جعجع، وبعد شهرين على عودة العماد ميشال عون من منفاه الباريسي، تتحدث اوساط مطلعة عن اتصالات اجراها «أحد قادة الاجهزة الامنية» مع رجل اعمال لبناني يقيم في باريس، من اجل تأمين انتقاله الى فرنسا، في ما يشبه «اللجوء الاستباقي». الاوساط الفرنسية رفضت بطبيعة الحال هذه المحاولة، فاستكمل الرجل اتصالاته في بريطانيا والسويد من دون نتائج حتى الآن.
إنها البداية في مسلسل قد لا يتوقف، وكثيرون هم السياسيون من اقطاب المعارضة، يرون ان المسافة قصيرة جداً بين مصطفى حمدان ورئيس الجمهورية على المستويين الشخصي والامني، وان «حارس القصر» هو في الوقت نفسه كاتم اسرار الرئيس واقرب المقربين اليه. وبصرف النظر عن اهمية الشبهة التي وجهت الى حمدان، فإن الرئيس لحود محرج اليوم اكثر من اي وقت، في ضوء ما ينتظره وينتظر لبنان من استحقاقات مصيرية. وكثيرون يتصورون ان ديتيلف ميليس، الشديد التمسك بالاصول القضائية، لن يتردد في استدعاء اي وزير او مسؤول كبير اذا هو رأى ضرورة لذلك، وقد يكون اعلانه عن الاشتباه بحمدان مجرد رسالة سياسية تنطوي على معنى ومغزى كبيرين، بالنسبة الى مراحل التحقيق اللاحقة.
يبقى ان هناك ثغرة سياسية، في حجم الفجوة الكبيرة، تتعلق بالشكل الذي كشف فيه ميليس عن شبهته. في الحديث الذي ادلى به الى «لو فيغارو» قال وبصورة مستقلة تماماً عن عملية تنظيف مكان الجريمة «ان الاسرائيليين يملكون استخبارات جيدة، وخصوصاً تكنولوجية، وقد اعطونا معلومات جيدة ».
هذه الاشارة تشكل في حد ذاتها انتقاصاً من اهمية الوقائع التي اوردها التحقيق الدولي، وسوف تشكل على الارجح حجة دامغة يستعملها فريق كبير من السياسيين عندما يحين الوقت لتسليم التقرير الدولي. الوضع يشبه هنا وضع الادارة الاميركية، عشية الهجوم على العراق. فقد استعانت هذه الادارة بمعلومات استخباراتية تلقتها من حلفائها الاوروبيين وغير الاوروبيين، تؤكد وجود اسلحة دمار شامل في مخازن صدام حسين، وتقاطعت هذه المعلومات مع معلومات المخابرات الاميركية نفسها، واستعملها جوج بوش داخل مجلس الأمن وخارجه، ذريعة لشن هجومه. وقد تبين بعد بعض الوقت ان مصدر هذه التقارير جميعها هو اسرائيل، وان المخابرات الاسرائيلية وزعتها على اجهزة مخابرات عدة، من اجل التحريض على ضرب العراق.
ولعل المطلوب ان يتنبه رئيس الفريق الدولي، الى خطورة اطلاق مثل هذه التصريحات، التي تعبر عن ارتياحه او اعجابه بالمعلومات الاسرائيلية، لأن من شأن هذا الاعجاب ان ينسف صدقية تقريره حتى قبل وضعه، وان يدين رؤوساً كبيرة قد يكون لاسرائيل مصلحة في إدانتها.
والمطلوب في النهاية هو الحقيقة من موقع الحياد، (لا الحقيقة) كما تقرأها اسرائيل.