- وثائق تنشر للمرة الأولى –
تعتبر الأملاك والعقارات الوقفية ذات النفع الخيري العام لدى الطوائف الإسلامية والمسيحية واليهودية من العوامل الأساسية التي أدت إلى تطور ونهضة هذه الطوائف ومؤسساتها الاجتماعية والتربوية والثقافية والاقتصادية والصحية والدينية وسواها ، خاصة وأن هذه الأملاك التي تكون ملكاً فردياً لصاحبها ، فمنذ إعلانها وقفاً خيرياً عاماً تخرج عن ملكية صاحبها ، لتصبح وقفاً خيرياً عاماً للطائفة التي ينتمي إليها الواقف .
وبالفعل فقد شهدت وثائق وسجلات المحكمة الشرعية في بيروت المحروسة العديد من الأوقاف الإسلامية والمسيحية في العهد العثماني ، وقد استطاعت هذه الأوقاف أن تؤسس وتنهض بالمؤسسات التابعة للمسلمين أو للمسيحيين . ومن خلال دراستي لأوقاف المؤسسات التربوية الأجنبية استطعت الاطلاع على أوقاف الكلية السورية الإنجيلية (الجامعة الأميركية اليوم) ، وعلى أوقاف الجامعة اليسوعية ، وعلى أوقاف المؤسسات الإنجيلية ، التي بواسطتها تم تأسيس تلك المؤسسات وتطورها ونهضتها في بيروت العثمانية ، وهي وثائق من ضمن مجموعة سجلات المحكمة الشرعية في بيروت المحروسة ، وهي تنشر للمرة الأولى . ومن المعروف أن القوانين التي اعتمدتها الدولة العثمانية تعفي الأوقاف : أراضٍ وأملاك وأبنية من الرسوم والضرائب المتوجبة على سواها من الأملاك باعتبارها من الأوقاف الخيرية ، لهذا فإن الكثير من المؤسسات الإسلامية والمسيحية حرصت على إعلان الأوقاف ، فضلاً عن أن تلك الأوقاف تقوم على خدمة المجتمع والتقرب إلى الله . وفيما يلي أوقاف المؤسسات المشار إليها :
1- أوقاف الكلية السورية الإنجيلية (بلس)
في 20 ذي الحجة 1286هـ، سجل في محكمة بيروت الشرعية في بيروت المحروسة وقف خيري عام على غاية من الأهمية له صلة بتشجيع المؤسسات العلمية وأنشطتها في بيروت، يعود للسيد ميخائيل يونس الغرزوزي والذي وقفه للكلية السورية الإنجيلية (الجامعة الأميركية في بيروت) على أن يكون الناظر على الوقف رئيسها القس دانيال بلس أول رئيس للكلية. «وقف وحبس ، وهو بحالة تعتبر شرعا ما هو له وجار في ملكه وتصرفه وآيل إليه بالشراء الشرعي بموجب حجتين شرعيتين.. وذلك الموقوف هو جميع قطع الأرض الثلاث السليخ المتلاصقة الكائنة في محلة الطنطاس من مزرعة رأس بيروت... وقفا صحيحا شرعيا وحبسا مؤبدا مرعيا ليبنى به مدرسة كلية لتعليم أنواع العلوم والصناعات لكل من يريد التعليم من سائر الطوائف، ويكون باقي الأرض بعد البناء وقفا على مصالح المدرسة وما تحتاج إليه، وشرط أن يكون النظر على الوقف المذكور للخواجا دانيال بن لومي بلس الأميركاني رئيس المدرسة الكلية في بيروت، الذي يكون رئيسا على المدرسة التي ستبنى في الوقف المذكور، ولمن يكون رئيسا عليها بعده كائنا من كان ...».
والواقع، فقد استطاعت الكلية السورية الإنجيلية بواسطة هذا الوقف وما تبعه من أوقاف أخرى، من تأسيس وإنشاء أبنيتها في منطقة رأس بيروت، بعد أن أقامت مؤقتا ولمدة سنتين في منطقة زقاق البلاط في دارة عبد الفتاح آغا حماده متسلم مدينة بيروت، مما يؤكد أهمية الأوقاف في انطلاقة المؤسسات التربوية..
2- أوقاف الأب مونو للوقف الكاثوليكي والجامعة اليسوعية
وفي الوقت الذي شهدت فيه مناطق رأس بيروت شراء ووقف أراض للكلية السورية الإنجيلية (الجامعة الأميركية فيما بعد) التي تأسست في بيروت عام 1866م – 1283هـ، ولرئيسها الأول دانيال بلس، فإذا بالرئيس الأول لجامعة القديس يوسف (الجامعة اليسوعية) «البادري مونو رئيس عامة الرهبنة الياسوعية في سورية» يبدأ بشراء أراض في حي القيراط شرقي بيروت لمصلحة الوقف الكاثوليكي، وذلك في عام 1287هـ (1870م) أي قبل خمس سنوات من تأسيس الجامعة اليسوعية في بيروت أي عام 1875م والتي كانت تمارس نشاطاتها التربوية والتعليمية في منطقة غزير في جبل لبنان، غير أنه سجل تلك الأراضي باسمه الخاص مؤقتا تخوفا من أية إجراءات عثمانية.
وتطالعنا وثائق سجلات المحكمة الشرعية في بيروت المحروسة في 26 ربيع الثاني 1287هـ، بعمليات شراء مونو، حيث باع الخواجه حبيب بن الياس النقاش إلى رافع هذا الرقيم الشرعي البادري مونو الرئيس العام للرهبنة اليسوعية في سورية، وذلك المبيع جميع البستان بمشتملاته الكائن في حي القيراط خارج مدينة بيروت... يحده بمشتملاته قبلة الخواجه درويش التيان، وتمامه ملك ورثة نقولا وإلياس الشويري، وملك ميخائيل ثابت، وشمالا ملك يعقوب ثابت وورثة إلياس فياض، وتمامه الطريق السالك، وشرقا الطريق السالك، وغربا ملك يعقوب ثابت وإسحاق ثابت وميخائيل ثابت... وقد جرى البيع المسطور صفقتين كل منهما بعقد مستقل على حدة، فالأولى بألف وخمسمائة ليرة فرنساوية، والثانية بألف وخمسماية ليرة فرنساوية، سعر كل ليرة ستة وثمانون قرشا وسبع وعشرون بارة قيمة جميع الليرات المحررة، وثانيا مائتين وستين ألفا واثنين وعشرين قرشا ونصف قرش حالة مقبوضة من مال البادري المشتري له المذكور بيد البائع المرقوم ...
وفي 24 ربيع الثاني 287هـ ، باع الخواجه غندور بن غنطوس التيان الوكيل عن آل التيان، البادري مونو الرئيس العام للرهبنة اليسوعية في سورية، جميع الدار بمشتملاتها الكائنة في زقاق صليبا في حي القيراط خارج بيروت. بثمن وقدره للمبيع المسطور سبعمائة وخمسون ليرة فرنساوية، سعر كل ليرة ستة وثمانون قرشا وسبع وعشرون بارة البالغ قيمة جميعها خمسة وستين ألفا وستة قروش وربع قرش حالة مقبوضة من مال البادري المشترى له ...
وفي 26 ربيع الثاني 1287هـ، باع الخواجه أسعد ونخلة ويوسف أولاد نقولا الشويري الأصلاء عن أنفسهم، كما باع وكلاء عن آل الشويري، البادري مونو الرئيس العام للرهبنة اليسوعية في سورية، جميع البستان بمشتملاته الكائن في حي القيراط خارج بيروت... وقد جرى البيع المسطور صفقتين كل منهما بعقد مستقل على حدة، فالأولى بثمن مائتا ليرة فرنساوية بألف التثنية، والصفقة الثانية بثمن ستمائة ليرة فرنساوية سعر كل ليرة ستة وثمانون قرشا وسبع وعشرون بارة، البالغ قيمة جميع الليرات المذكورة أولا وثانيا تسعة وستين ألفا وثلاثمائة وأربعين قرشا، حال مقبوض جميع الثمنين المحررين من مال البادري ...
وهكذا ويلاحظ، بأن هذه الأراضي المشتراة في حي القيراط شرقي بيروت (طريق الشام) كانت اللبنة الأولى التي أرست الدعائم لإقامة الجامعة اليسوعية في بيروت، منافسة الكلية السورية الإنجيلية في النشاطات التربوية والتعليمية والتبشيرية. ومما يلاحظ أيضاً بأن ثمن الأراضي التي اشتراها " مونو" تقارب (138000) ليرة فرنسية (مئة وثمانية وثلاثون ألف ل.ف.)، وهو مبلغ كبير آنذاك، يتجاوز ويفوق القدرة المالية الشخصية لمونو، مما يؤكد دعم السلطات الفرنسية والرهبنة اليسوعية لعمليات الشراء.
وفي 16 جمادى الثانية عام 1291هـ، وفي إطار إقرار واعتراف الخواجه حبيب بن جبور الشويري بديون لبعض البيارتة من المسلمين والمسيحيين، وفي إطار رهنه لجميع قطعة الأرض الكائنة في زقاق الصيفي إشارة إلى تحديد هذا الرهن. ومن خلال تحديد هذا الرهن تم التعرف إلى حدودها والى بعض الأوقاف في بيروت : «شمالا الأرض وقف رهبنة الياسوعية وشرقا أرض وعمار وقف الرهبنة المزبورة...» . ومن المعروف أن أوقاف الرهبنة اليسوعية في بيروت ولبنان من أهم الأوقاف المسيحية في لبنان.
3- أوقاف القسيس جسب للمدارس الإنجيلية في الأشرفية
وفي 18 ربيع الثاني عام 1292هـ، وفي إطار دعم المؤسسات التربوية الإنجيلية، حضر إلى مجلس الشرع الشريف في بيروت المحروسة القسيس هنري ابن وليم بن يوحنا جسب المبشر الأميركاني ووقف ما هو له وجار في ملكه وتصرفه، جميع قطعة الأرض بمشتملاتها الكائنة في زقاق مارمتر في محلة الرميل خارج مدينة بيروت المشتملة على دكاكين ورواق وبئر مياه وأغراس... وقفا صحيحا شرعيا على مصالح المدرسة المختصة بالطائفة الإنجيلية التابعة لأصول النظام والاعتقاد القسوسي الكائنة هذه المدرسة في محلة الأشرفية خارج بيروت، وشرط الواقف النظر والتولية على وقفة المحرر قسيس الطائفة الإنجيلية كائنا من كان، وقد أقام الواقف المرقوم الحاضر معه الخواجه ميخائيل بن يونس الغرزوزي ناظرا مؤقتا على الوقف، ثم عزل الناظر المؤقت، وثبت التولية للناظر الأصلي قسيس الطائفة الإنجيلية .
ومن المعروف أن ميخائيل الغرزوزي سبق أن وقف وقفا للكلية السورية الإنجيلية، وقيل بأن أموال الوقف هي في الأصل للبعثة الإنجيلية الأميركية ، كما أنه كان أحد المتعاونين ولسنين طويلة مع المؤسسات الأميركية في بيروت. كما يدلنا " وقف المبشر جسب " على توسع النشاط التبشيري الأميركي في بيروت بعدة أساليب، ومن بينها أساليب الوقف.
وهكذا ، يلاحظ ، أن المؤسسات التربوية الأجنبية ، ومن بينها الأميركية والفرنسية ، قد قامت في الأساس وتطورت بواسطة الأملاك الوقفية في بيروت المحروسة .
بقلم : د. حسان حلاق *