د. عماد شيا(*)

بعد أن حطت حرب تموز أوزارها وبدأ سريان مفعول القرار 1701، الذي نص على نشر الجيش اللبناني بمؤازرة قوات "اليونيفيل" الموسعة والمعززة جنوب خط الليطاني وعلى طول الحدود مع الكيان الاسرائيلي، أوقف الاسرائيليون سجالاتهم الداخلية وانصرفوا الى مزاولة شؤونهم، بعد أن أوكلوا أمر التحقيق بمسار الحرب وتقييم نتائجها وتداعياتها، الى لجنة خبراء برئاسة الياهو فينوغراد، في حين سارع "حزب الله" وقبل أن تستكمل عملية مسح الأضرار والتدمير وإحصاء الخسائر البشرية التي كان لا يزال بعضها تحت الأنقاض، الى إعلان "نصره الالهي" على اسرائيل، ونقل "عدة" اهتماماته وعديدها نحو الداخل اللبناني.


أكثر من ثمانية أشهر مضت على وقف العمليات العدائية في جنوب لبنان، ومؤسسات الدولة العبرية "المهزومة" من كنيست وحكومة وقضاء، تتابع عملها بشكل اعتيادي، تاركة التحقيقات التي يترأسها فينوغراد تأخذ مداها. في المقابل، لم يكد لبنان يخرج من لهيب حرب تموز مع اسرائيل حتى انتقلت حلبة الصراع من حدوده الجنوبية الى أحيائه وشوارعه الداخلية.


فبعد أقل من أسبوعين على وقف الأعمال العدائية بين "حزب الله" واسرائيل، أعلن "حزب الله" في احتفال حاشد في ضاحية بيروت الجنوبية "النصر الالهي" على اسرائيل، موجهاً سهامه الى حكومة الرئيس فؤاد السنيورة التي وصفها بحكومة "فيلتمان"، بعد أن كانت توصف طوال أيام الحرب بحكومة المقاومة السياسية. وكان قد سبق هذا التطور في مواقف "حزب الله" مشهدان: أحدهما، في سوريا حيث دعا الرئيس السوري بشار الأسد حلفاءه في لبنان الى استكمال الانتصار على اسرائيل بالتخلص من منتجها في لبنان، حكومة الرئيس السنيورة وقوى 14 آذار. وثانيهما، في إيران حيث جرى الاحتفال على نطاق واسع بالانتصار على الشيطانين الأكبر والأصغر على أرض لبنان، التي اعتبرها آية الله الخامنئي رأس الحربة في هزيمة أميركا، والرئيس نجاد الذي اعتبر لبنان وإيران جسماً واحداً.


إعلان "النصر الالهي" استتبع بتصعيد سياسي خطير عبّر عنه باستقالة وزراء الثنائي الشيعي، عشية وصول مسودة المحكمة ذات الطابع الدولي واغتيال الوزير بيار الجميل. وبعد ذلك بدأ الاعتصام المجوقل والمفتوح في وسط بيروت بالتزامن مع إقفال المجلس النيابي وتوقف الجلسات العامة. وعلى وقع الاعتصام في وسط عاصمة الانتصار "نصرغراد"، بدأت الاعتصامات الجوالة على بعض المقار والمؤسسات العامة وصولاً الى اليومين الأسودين حين أقفلت الطرقات العامة وارتفعت سحب الدخان وسقط القتلى والجرحى في أكثر من منطقة، وذلك تلبية لوعد جديد أطلقته "المعارضة" لإسقاط حكومة الرئيس السنيورة التي اعتبرها الرئيس السوري منتجاً اسرائيلياً.
من الوعد الصادق بتحرير الأسرى الى الوعد بتحرير البلاد من "المنتج الاسرائيلي"، تحولت "نصرغراد" الى مدينة تحاصرها خيم ثوار الوصاية والممانعة لسيادة الدولة التي نصبت في وسطها وتحولت مع الوقت الى "غيتو" له نظامه وقواعده التي لا تستطيع أجهزة الدولة خرقها، خشية الاصطدام بقوى الأمر الواقع التي ما زالت حتى الساعة تحتفظ بسلاحها ومربعاتها الأمنية والمالية والسياسية، وبالتالي بقرار الحرب بمنأى عن الدولة ومؤسساتها.


بين تقرير فينوغراد/ بالروسية مدينة النبيذ/ وإعلان "نصرغراد"/ ضاحية الانتصار الالهي/ ثمة العديد من المفارقات. فتقرير فينوغراد بتحديده المسؤوليات عن الاخفاق في حرب تموز وأسبابه، ينزع الانطباع بالاخفاق عن دولة اسرائيل ومؤسساتها السياسية والعسكرية والأمنية ويحصرها برئيس الحكومة ووزير الدفاع ورئيس الأركان الذين بحسب التقرير، خاضوا الحرب بشكل مرتجل وغير مسؤول. وهذا بالطبع يدحض المزاعم بأن الحرب مدبرة أو كان يجري التخطيط لكي تشن في وقت لاحق. كما أن هذا التقرير سحب السجال من الشارع الاسرائيلي ووضع الأمور في نصابها في وقت كانت المؤسسات تعمل بشكل طبيعي وفقاً للقانون والدستور. في حين نقل أصحاب "النصر الالهي" المواجهة من الساحة الجنوبية الى الداخل، فتعطلت المؤسسات الدستورية، وشل الاقتصاد وارتفع منسوب الاحتقان الطائفي الى أعلى درجاته.
صحيح، ان تقرير فينوغراد فجّر في اسرائيل أزمة سياسية، لكن ما يخفف من خطورتها هو أن هذا التقرير حاز ثقة معظم الاسرائيليين، وحتى من أدانهم التقرير لم يعترضوا على ما جاء فيه. غير أن مسارعة "حزب الله" الى تسمية حكومة الرئيس السنيورة بـ"حكومة فيلتمان" في نفس المهرجان "النصر الالهي"، وبالتماهي المدروس مع وصف الرئيس السوري لهذه الحكومة بـ"المنتج الاسرائيلي"، أدى الى استفزاز أكثر من نصف اللبنانيين والتسبب بشرخ وطني خطير يصعب التكهن بنتائجه وتداعياته على لبنان شعباً ودولة ومؤسسات.