بسام ضو(*)
القرار 1757 يحتاج الى قراءة لبنانية ـ لبنانية... القراءة الدولية تمت، ولا حاجة الى تكرارها، ولا جدوى من إنكارها... المحكمة حق أصلاً، وصارت حقيقة في الطريق الى الحقيقة. كان يجب أن يتبلور هذا الحق في الممر الاختياري، في مجلس النواب، ولكن هذا هو خطأ المعارضة الذي دفع الى الممر الإجباري في مجلس الأمن. سيدور جدال واسع ومتشعب قانونياً وسياسياً حول أبعاد هذا القرار من زاوية استناده الى الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، ولكن لا يغيب عن بال أحد، أن ميثاق الأمم المتحدة كل متكامل، وأن كل القرارات التي تتخذ في ضوء نصوصه هي قرارات ملزمة لجميع الدول الأعضاء في المنظمة الدولية، سواء استندت الى الفصل السابع أو الى غيره، مع العلم طبعاً أن الفوارق تبقى موجودة بين تفاصيل قرار وآخر، وأن الدول الموقعة على الميثاق ملتزمة به طوعاً، وملزمة به قانوناً. وبناءً عليه فإن النقاش بهذا المعنى حول السيادة، وانتهاك السيادة، يقع عليه تحفظ واسع، وتتناوب بإزائه وجهات نظر عديدة على مستوى النصوص وتفسير النصوص، إذ ليس من السهل القبول بتفسير الزامية القرارات الدولية على أنها انتهاك للسيادة، طالما أن الدول الأعضاء موقعة على ميثاق الأمم المتحدة.
التنكر للوضع القانوني، هو مغامرة ساقطة، فالمنظمة الدولية، هيئة قائمة بكل أجهزتها، وتجاهل قراراتها يستدعي واحداً من أمرين: إما ا لخروج منها، وهذه مسألة تشكل مغامرة ثانية ساقطة أيضاً، وإما البقاء فيها والخروج على قراراتها، وهذه مغامرة أشد سقوطاً. ولما كنا نعرف، ويعرف غيرنا، أن الغالبية الساحقة من قرارات الأمم المتحدة، أثارت نقاشات عاصفة، وخلافات سياسية، ومجادلات قانونية، منذ أن أنشئت هذه المنظمة في العام 1945 حتى اليوم، فإننا نعرف أيضاً أن عدداً من القرارات كان لا بد منه، برغم ما قد يثير من إشكالات. والقرار 1757 القاضي بإنشاء المحكمة ذات الطابع الدولي الخاصة بجريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه، هو في طليعة هذه القرارات التي تمليها الضرورة القصوى، فمثل هذه الجريمة الإرهابية التي تمثل ذروة جرائم متمادية ومتلاحقة، ما كان يمكن أن تبقى من دون محكمة تضع بإزائها حداً فاصلاً حاسماً.
وانطلاقاً مما سبق، فإن خطيئة عدم إقرار المحكمة في مجلس النواب اللبناني، وعدم مناقشة الملاحظات التي قالت المعارضة، انها سجلتها على مشروع انشاء المحكمة، يجب ان لا تتكرر ابدا عن طريق الامتناع عن اجراء قراءة لبنانية ـ لبنانية للقرار 1757.
القراءة التي نعنيها، هي قراءة مشتركة، تتضمن مراجعة المواقف واعادة تقييمها، وتتمسك بوحدة لبنان، وبوحدة ابنائه، وباستقلاله، وسيادته، وحريته، وتوازناته التنوعية الواقعية التي لا مهرب منها في المدى المنظور قبل بلوغ حالة الغاء الطائفية... وهي ايضا، بل قبل كل شيء ـ قراءة حوارية وطنية تحفظ بقاء لبنان ومستقبله، وتنظر الى المرحلة بعد اقرارالمحكمة على انها يجب ان تكون مرحلة العودة الى الحوار الوطني الجدي الواقعي، كما تنظر الى المحكمة على انها حق حصراً وأصلاً، ما كانت لتقر في مجلس الأمن الدولي الا اضطرارا.
لقد بدأ سعد الحريري بهذه القراءة فور صدور القرار 1757، وهو معني بالأمر سياسياً ووطنياً، مثلما هو وعائلته معنيون عاطفياً. وكان فائق الأهمية عندما كان أول تأكيداته ان انشاء المحكمة لا يعني له لبنانياً انتصاراً لفريق على آخر، بل يعني تطلعاً الى العدالة.. وليد جنبلاط ايضا اكد المواقف نفسها، ثم جاء بيان قوى 14 آذار ليشدد على نقطة اساسية يحتاج اليها لبنان في كل وقت، بل لا يمكن ان يكون من دونها لبنان، وهي المصالحة الوطنية التي تقود الى تسوية، وهذه المرة يجب ان تكون التسوية اعمق بكثير من تسوية 1943 التي حسمت فكرة قيام لبنان على العيش المشترك المستند الى صيغة ميثاقية عبرت عنها آنذاك حكومة رياض الصلح في بيانها الوزاري، ولكنها لم تحسم مسألة الهوية ونهائية الوطن فجاء اتفاق الطائف بعد ستة وأربعين عاما (في 1989) ليحسم نهائية الوطن، وهويته العربية، ولكنه بدوره لم يحسم مسألة الدولة السيدة المستقلة، وهذا بالضبط ما نحتاج اليه اليوم، اي الى تسوية تاريخية كبيرة تسد كل هذه النواقص فتحسم مجددا مسألة لبنان ـ الدولة السيدة المستقلة، لبنان ـ الوطن النهائي، لبنان العربي الذي يعيش استقلاله وسيادته فعلا في اطار الجامعة العربية والأمم المتحدة، وفي اطار وحدته الوطنية التي تؤسس كلها لتطوره المستقبلي نحو مجتمع مدني حديث، ونحو دولة حديثة وجامعة وقادرة وديموقراطية.
ان لبنان والتسوية الوطنية ـ الداخلية صنوان، لا بقاء له ـ بكل معاني البقاء ـ من دونها. ولا قيمة له بعد فوات الأوان...، وبرغم كل الخلافات التي سبقت إقرار المحكمة في مجلس الأمن الدولي، هو وقت التسوية، وهذه مسؤولية الجميع، ومن يراقب الأمور، وما آلت اليه الأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية ينتظر ما سيكون عليه موقف المعارضة التي بإمكانها أن تلاقي 14 آذار في وسط الطريق، فلا شيء مستحيل.. إن التأخر في هذه الملاقاة يوازي خطيئة الامتناع عن قبول إقرار المحكمة في مجلس النواب. ولا نعني بذلك سوى العودة الى الحوار الجاد المسؤول الذي يجب أن يمارسه كل الأطراف بحثاً عن حلول لا بحثاً عن مبررات لاستمرار المشكلات. أما خارج التسوية التي وحدها بإمكانها أن تعطي بعداً وطنياً ـ داخلياً لأية معادلة دولية، أو لأي قرار دولي، فإن الخطيئة التي نتحدث عنها تتكرر مرة ثانية، وهذا يدخل في عالم اللامعقول، ويسوق لبنان الى المجهول.
(*) كاتب سياسي