الرجل الذي فقده الفكر وخسره لبنان وجميع العرب
(1895- 1946)
عمر فاخوري أديب حر، وناقد مبدع، وكاتب لبناني مناضل، غزير العلم، واسع الاطلاع على الثقافتين العربية والأوربية عامة والفرنسية خاصة.
ولد عام 1895 في بيروت، في أسرة عريقة، عُرفت بحب الأدب والعلم، والميل إلى التقى والصلاح. تلقى دراسته في الكلية العثمانية للشيخ أحمد عباس الأزهري، وكان من رفاقه فيها الشهداء: محمد المحمصاني، وعبد الغني العُريسي، وعمر حمد.. وبعد أن أنهى دراسته فيها، انضم إلى حركة النضال الوطني، فانتظم في (حزب الاستقلال) و(جمعية العربية الفتاة) السرية، وألف في هذه الفترة كتابه الأول (كيف ينهض العرب) الذي كاد يؤدي به إلى حبل المشنقة في عهد الديوان العرفي التركي في (عاليه).
التحق بمعهد الحقوق الفرنسي في بيروت، لكن نشوب الحرب العالمية الأولى قضى بإقفاله، ولما انتهت الحرب، أخذ ينشر مقالاته في جريدة (الحقيقة) بتوقيع (مسلم ديمقراطي) متهكماً على سياسة الحلفاء تجاه العرب، ولما نالت سورية استقلالها عام 1918 دعاه الملك فيصل الأول (1883ـ 1933) لتحرير جريدة (العاصمة) في دمشق، لكنه لم يكد يستقر فيها حتى وقع الاحتلال الفرنسي على سورية عام 1920، فغادر دمشق إلى فرنسا لدراسة الحقوق والآداب والعلوم السياسية في جامعة السوربون، فمكث ثلاث سنوات.
وهناك التقى نخبة من الوطنيين السوريين واللبنانيين كرستم حيدر، وإحسان الشريف، ورئيف أبي اللمع، وصلاح اللبابيدي، وحضر ندوات الأدب والفن والنقد، واطلع على الآراء الاشتراكية التي تأثر بها.
عاد عام 1923 إلى بيروت، وعمل في حقل الأدب والسياسة، ثم دعي إلى دمشق لتحرير جريدة (المفيد) لصاحبيها يوسف ونجيب حيدر، و(الميزان) لأحمد شاكر الكرمي (1894ـ 1927)، ولما توقفت الجريدتان بسبب مناهضتهما للاستعمار الفرنسي، قفل راجعاً إلى بيروت، واستأنف نشر مقالاته في جريدة (الحقيقة) كما أسهم في تأسيس مجلة (الكشاف)، وترجم لها كتاب غاندي لرومان رولان، ومارس المحاماة، وفي عام 1927 انتخب عضواً في المجمع العلمي العربي بدمشق.
أمضى عمر فاخوري السنوات الأخيرة من حياته موظفاً بين الدوائر العقارية والإذاعة اللبنانية. وفي عام 1940 تعرف إلى الحزب الشيوعي، فاعتنق مبادئه اليسارية، وانتخبته عصبة مكافحة النازية والفاشية في عمدتها، كما انتخبته جمعية أصدقاء الاتحاد السوفييتي السابق رئيساً لها. وفي عام 1943 أقدم على خوض معركة الانتخابات النيابية مستقلاً فلم يوفق، فانصرف إلى الكتابة والتأليف ومعالجة مرض اليرقان الذي تفشى في جسمه النحيل، وصبغ لونه بالصفرة، وظل على هذه الحال حتى وافته المنية في ربيع عام 1946 وهو في الحادية والخمسين من عمره، فقيراً، مثقلاً بالديون، بعد أن تعاون عسره ومرضه على تهديم هيكله الواهي.
وصف مارون عبود 1886 ـ 1962 صديقه عمر فاخوري وهو في أيامه الأخيرة قائلاً: (عدت عمر أول مرة، فخلتني أمام مومياء تحدثني،فارتعت ثم تجلدت لئلا أريعه... رأيت اليرقان قد خلع عليه كل ما عنده من زعفران، فسألته عما به، فأجاب بعد سكوت: قلة العافية، وعناء الحمية. الغمرة انجلت ولكن.. وطال السكوت فقلت له: متى تعود إلى عشك؟ فأجاب بهز شفتيه، فعلمت أن لليرقان أحلافاً تشد أزره في حرب عمر، وبلغني أن عمر عاد من عند أمه، فهرعت لأهنئه بالسلامة، فقالت لي الخادمة: إنه في المستشفى فلم أستطع مقابلته. وبعد عودته من المستشفى جئته مستكشفاً، فرأيته لا حياً يرجى، ولا ميتاً فيُسلى، وقعدنا حيث اعتدنا أن نجلس، فلم يشكُ عمر الداء، بل شكا سوء الحال وقلة الوفاء. وأخيراً مات هذا النسر وعينه إلى القمة، لم ينظر إلى الأوحال التي يتمرغ بها بعض زرازير الأدب. وكانت خسارة الأدب العربي فيه لا تقدر أو لا تعوض (جدد وقدماء صفحة 189 ـ 193).
◄آثاره الأدبية
1ـ آراء غربية في مسائل شرقية 1925، 2 ـ آراء أناتول فرانس 1926، 3ـ غاندي لرومان رولان 1927، 4ـ الباب المرصود 1937، 5ـ الفصول الأربعة 1941، 6ـ لا هوادة 1942، 7ـ أديب في السوق 1944، 8ـ الحقيقة اللبنانية 1945، 9ـ كيف ينهض العرب، 10ـ الاتحاد السوفييتي حجر الزاوية.
◄دراسة أدبه
كان عمر فاخوري أديباً وناقداً في الباب المرصود والفصول الأربعة، وكاتباً مناضلاً في أديب في السوق، والحقيقة اللبنانية ولا هوادة، إذ كان ذا بصيرة نقادة، وعينين فاحصتين تنفذان إلى الأعماق، وكان يغرز إبرته الدقيقة في الشرايين المتصلبة، ويمزج أدب العرب بأدب الغرب فيزاوج ويقارن.
نعى على الأدباء ترفعهم عن الواقع، فسماهم أدباء من حبر وورق لا من لحم ودم، وهجر البرج العاجي، ونزل إلى السوق، مازجاً النضال بالأدب، دون أن يفارق محراب الأدب والفن في أحرج ساعات النضال. فهو السياسي الأديب والأديب السياسي المدافع عن الجماهير المسحوقة والمضطهدة والمظلومة. كتب عن رسالة الأديب في الحياة قائلاً: (حبذا لو أن الأدباء يقللون من التبجح برسالتهم، ويكثرون من أداء وظائفهم). وعن الطائفية في لبنان قائلاً: (لقد أتى علينا زمن في لبنان، وبين الطائفة والأخرى، أو بين أبناء دين وأبناء الدين الآخر، كالحدود التي تفصل وطناً عن وطن. كدنا نحتاج إلى جوازات سفر بين الطوائف والأديان!).
نزل إلى السوق في كتابه أديب في السوق، ليرينا دنيا الكدح والشقاء، وما فيها من الغرائب والعجائب، وكيف أننا نعيش فيها ولا نرى شيئاً منها، حتى يأتينا بصندوق عجائبه الذي حشاه صوراً وتهكماً وانتقاداً وسخرية، كما اتهم أدبنا بأنه أدب مشغول عن تمثيل نواحي الحياة، وتصوير أخلاق الأحياء، وأنه أدب ألفاظ، لا أدب حياة.
كان يتوخى تحرير الأدب من القيود التي كبلته طوال سنين، والنأي به عن أولئك الثقلاء الذين تكلفوه وزخرفوه بالألفاظ الجوفاء المنمقة، وأفرغوه من مضامينه، دون أن يتطلعوا إلى تصوير الواقع المعيش.
لم يكن نقده للأدب منصباً على كل قديم ـ كما تقول الأديبة ودار سكاكيني (1913 ـ 1991)، مفضلاً كل حديث، بل كان يعطي كلاً منهما حقه، ويثني على كل إتقان في الشعر أو النثر، ولو كان ممعناً في القدم، وما كان همه أن يفضل لفظاً على لفظ، أو معنى على معنى.
كان نقده الذاتي والموضوعي يلم بالآثار الأدبية، باحثاً عن تعبير سليم، وتفكير حر، فيهما طعم ولون من ذوق العصر وروح العصر، حفاظاً على أصالة اللغة، وجمال الصورة، وبلاغة التعبير، متهكماً على أدباء الحبر والورق الذين ارتبطت قلوبهم وألسنتهم بما جفت فيه الحياة من لغة رنانة، وعبارات منبرية، وأفكار سطحية، ليسدوا بأيديهم تطور الفصحى وسمو البيان.
تعلق بحياة العصر وأدبه، فأراد أن يكون أدبنا الحديث صادق التعبير عن المجتمع الذي نعيش فيه، فحمل في نقده على طواحين الألفاظ والقوالب الجاهزة قائلاً: (في السوق الأدبية بضاعة مختلفة النسج والألوان، خاضعة للعرض والطلب، وقد سئم القراء المواعظ المكررة، ويئسوا من ترديد محتوياتها، وقد تكون البضاعة الرديئة أو المزجاة هي الرائجة، لكن الجيدة يبقى ثمنها فيها).
لقد اطلع على مذاهب الأدب والنقد في الشرق والغرب، فما آثر مذهباً محدداً، أو اتخذ طابعاً معنياً، بل كان معايناً متتبعاً من قريب ومن بعيد، وعلى سجيته وطريقته، دون أن يشهر سلاحه في وجه أحد، أو يتحيز إلى فئة ما، ولو أعجبه تطورها في الأداء والفكر المعاصر، واقتباسها من ثقافة الغرب ما أعانها على هذا التطور، كما حدث بينه وبين الشاعر إلياس فياض (1872 ـ 1930) الذي نقل قصيدة (المجرّة) للشاعر الفرنسي سوللّي برودوم إلى العربية، ونشرها في ديوانه تحت عنوان النجوم، دون أن يشير إلى أنها منقولة عن أصل فرنسي، فقدم وأخر واختصر المعاني أحياناً وفصلها أحياناً أخرى، واجتهد لإبراز الصور الفرنجية في حلة عربية، دون أن يشهّر به أو يجرّحه في نقده. يقول سوللي برودوم في قصيدة المجرة:
قلت للنجوم ذات مساء: لا إخالك سعيدة، إن لأنوارك في اللانهاية السوداء حنيناً شجياً. ويقول إلياس فياض:
قلتُ للنيراتِ ذاتَ مساءٍ: أتُرى أنتِ مثلنا في شقاءِ؟
ساهراتُ الجفونِ هل لفراقٍ؟ خافقاتُ الضلوعِ هل للقاءِ؟
جمع عمر فاخوري في نقده بين الذاتية والموضوعية، ولم يكن فيه منهجياً تقليدياً، بل صادراً عن ثقافة واسعة، وموهبة خصبة في التمييز، إذ كان يشق عليه أن يمر بمواقع الزيف والخلل والتحريف دون أن يبدو رأيه فيها، أو يدل عليها، تاركاً للقارئ إبداء حرية الرأي والذوق والتعليق، كان يضرب ولا يؤذي، ويستخدم مبضع النطاسي البارع لا مدية الجراح، بادئاً بنفسه أولاً، وكل ذلك في دعابة مستحبة، ولباقة معهودة، ولطف شديد.
قال عنه مارون عبود: لم يكن عمر حسوداً ولا حقوداً، كان على ما فيه من شمم وإباء لا يزهى ولا يتكبر. كان محباً، وإذا أبغض أعرض وازدرى. كان فمه نظيفاً، لا يتبذل حتى في المجالس الخاصة التي كنا نعطي فيها المرح حقه، فكان يقابل تلك النكات الصارخة بربع ابتسامة، ويشارك بكلمات كان يستعد لتأديتها استعداد طالب غير واثق من ذاكرته.