في السفارة الإسرائيلية
وضع طارق السماعة وتناول دليل التلفون وأخذ يبحث تحت باب " سفارات " عن السفارة الإسرائيلية حتى وجده ، فقام على الفور وأوقف سيارة تاكسي وقال لسائقها :
Ø " كنزجتون من فضلك .. بالاس جرين" ! وحين رأى علم السفارة الإسرائيلية قال للسائق :
Ø " هنا من فضلك " .
دفع الأجرة وأخذ يتطلع حوله نحو الباب الرئيسي ضغط على الجرس قائلاً في" الانترفون " أريد مقابلة زكى ، فوق رأسه رأى كاميرا مثبتة تطلع فيها لحظة فإذا بالباب يفتح أوتوماتيكياً ، دخل الحديقة ومنها عبر إلى حجرة صغيرة يقف في بابها رجل أم نفى يده آلة . فتشه الرجل بيديه وبالآلة تفتيشا دقيقاً ، ثم أخذ منه علبة السجائر ففتحها وأخرج محتوياتها ثم تحسسها قبل أن يعيد إليه السجائر وكذلك فعل بالولاعة : فتحها وتفحصها ثم أعادها إليه وهو يشير إلى رجل أمن آخر يجلس في الغرفة على أحد المقاعد الصغيرة ، وهو الذي قال لطارق : " اتبعني " فتبعه إلى غرفة أخرى قبل أن يصعد إلى أعلى . وأمام أحد الأبواب المغلقة وقف رجل الأمن وخلفه طارق، قرع الباب قبل أن يفتحه ، فإذا زكى يجلس أمام مكتبه . وما إن رأى طارق حتى نهض وهو يبتسم ماداً يده مصافحاً ، في الوقت الذي انصرف فيه رجل الأمن . مد طارق يده بفتور وخجل مذل وصافح الذئب الضاحك ، الذي أجلسه على كرسى أمام مكتبه وهو يقول :
Ø كيف حالك ؟
فقال طارق بانكسار :
Ø أريد " نيجاتيف " الصور .
ضحك زكى الذي كان يشعر بفرح غامر في داخله لطلب طارق ومجيئه إليه في السفارة . قد تيقن أن الفتى قد وقع الآن ، فعدا عن الصور الشاذة أصبحت لديه الآن صور لطارق على مدخل السفارة وفى غرفة رجال الأمن وفى مكتبه أيضاً . فقال لطارق :
Ø وماذا تريد من " النيجاتيف " انه محفوظة في أمان .
فقال طارق وهو يغالب دموعه :
Ø لماذا فعلت معي هذا ؟
فقال زكى وهو يبتسم بلؤم :
Ø وما الذي فعلته معك ؟ لقد فعلنا معك ما تريد وما تحب ، ألم تفعل ذلك في بيروت برضاك ؟ أما إذا كان خوفك من الصور و " النيجاتيف " فلا تخف لأنها لم تصل إلى يد أي مخلوق إذا ما تعاونت معنا بإخلاص أما إذا حاولت أن تلعب بذيلك فسوف تصل منها نسخ كثيرة إلى أهلك وكل أصدقائك ومعارفك .
Ø وماذا تريد منى ؟
Ø لا أريد الكثير ، ولكنني أريد الحقيقة . وأريدك أن تتعامل نعى بصدق واخلاص .
ثم تناول من فوق مكتبه دفتراً كبيرا وقلما وقال لطارق :
Ø خذ هذه واكتب الآن كل شئ عن حياتك ، منذ كنت في المدرسة والى أن أتيت إلى لندن . يعنى لا تنسى شيئاً منذ خلقت حتى هذه اللحظة ، كعلاقتك مع الرسام والأثرياء العرب في بيروت والمنظمات الفلسطينية .
ذهل طارق لمعرفة زكى بكل هذه الأمور عنه أنه لم يذكر له أي شئ عنها . وتذكر أن أحلام هي الفتاة آتى كانت تتسقط أخباره ، والتي منها يأخذ زكى المعلومات عنه . فقال :
Ø إذا كنتم تعرفون كل ذلك عنى فلماذا تريدني أن اكتب لك كل شئ ؟ ما الذي ستستفيده ؟
نهض زكى عن مقعده وهو يقول بحزم :
Ø ابتداءً من هذه اللحظة أنت لا تسال ولا تستعمل كلمة " لماذا " أبدا .
Ø عليك أن تنفذ فقط ما يقال لك .
هاج صدره بالغضب ! وانكب على الورق يكتب كل شئ عن حياته وأهله وعلاقاته ومخازيه بالتفصيل .
وما إن انتهى من الكتابة حتى دفع بالأوراق باتجاه زكى الذي رمقه بنظراته النافذة قائلاً :
Ø " نريدك أن تذهب إلى بيروت وتعود إلينا بعد شهر ، وإياك أن لا تعود معتقدا أنك هناك في أمان بعيدا عنا . يجب أن تعلم أن يدنا طويلة لو كنت في آخر الأرض أو تحت الأرض ، فاهم ؟ ! " .
بداية اللعبة
أومأ طارق
برأسه وهو يفكر كيف وقع في هذه الورطة . كان ينظر بعينه نحو المستقبل فلا يجد لنفسه
خلاصاً . لقد وقع في الفخ . وها هو قد كتب لهم كل معارفه من أثرياء وغير أثرياء .
هل سيبتزونهم أيضاً كما ابتزوه ؟ وهل سعيد عميل لهم ؟ وإذا لم يكن ، فمن المؤكد
أنهم يسعون إليه ويوقعونه بالفخ كما
أوقعوه ، وسيوقعون الكثيرين ، " تبا لهم من شياطين أوغاد " يلبسون لبوس الأصدقاء
ويتقنعون بالطيبة ، يتكلمون لغتنا العربية ويتقنعون بالطيبة و يتكلمون لغتنا
العربية ويتقنون لهجاتنا المختلفة . يبحثون عن نقاط ضعف فينا . ويضربون ضربتهم . ها
أنا قد خسرت الكثير لكن بقى لي أن صورتي لدى أهلي ما زالت نقية ، فلأحافظ على هذه
الصورة في عيونهم على الأقل ، " لأن أمي وأبى سيموتان قهراً لو عرفا أنني شاذ وأبى
قد يقتل نفسه قبل أن يخرج إلى الشارع ليراه الناس فيتضاحكون عليه وهم يشيرون إليه
بقولهم : هذه أبو طارق المسكين ابنه كذا وكذا . وأخوتي ، ماذا سيفعلن وهل سيتركهن
الناس في حالهن ؟ سيقولون الكثير وسيقلبون حياتهم إلى جحيم . إلا ليتني خلقت بنتاً
قبل هذه الأمر ، فرت الدمعة من عينيه وهو يتذكر أهله فرداً فرداً .
ولم يفكر طارق في أهله كيف سيكون حالهم فيما لو عمل مع المخابرات الإسرائيلية واكتشف أمره . ما الذي سيحصل لوالده حين تظهر حقيقته كجاسوس خائن لأمته وأهله وعروبته ووطنه إضافة إلى شذوذه .
كان كل همه محصوراً في الحاضر . إذا لم يتعاون فانهم سيرسلون صوره الخليعة إلى أهله وأصدقائه ومعارفه . فأين يضع رأسه بعد ذلك ؟ كان المهم عنده في تلك اللحظة أن يستر الحاضر وواقعه المخجل تاركاً المستقبل للأيام ، والمخابرات الإسرائيلية وقدرتها على كتمان السر والمحافظة على عملائها .
أخرجه زكى من تأملاته قائلاً :
Ø اسمعني جيداً ، منذ الآن سيكون اسمك جونسون ، واتصالاتنا ستكون سرية فحين تصل إلى لندن ، ابحث عن تلفون السفارة في الدليل . لا تحمل الرقم معك أبداً وعندما ترد عليك عاملة الهاتف في السفارة قل لها أنا جونسون وأريد زكى . وأعطها رقم هاتفك ولا تزد . فاهم ؟
أومأ طارق برأسه وعلامات القرف ترتسم على وجهه لقول زكى " يا شيخ المشايخ " .
وهناك قال زكى :
Ø لكنك ستعطيها رقم هاتفك بالشيفرة حتى إذا ما سمعه أحد لن يفهم منه شيئاً ، وسوف نعلمك طريقة الشيفرة في الوقت المناسب .وبعد أن تترك هذه الرسالة القصيرة مع عاملة الهاتف لا تفعل شيئاً ولا تحاول الاتصال لأنني سأتصل بك في الوقت المناسب لترتيب موعد للقائنا . ويجب أن تتقيد بكل ما أقوله لك لأنه ضروري لأمنك وحمايتك .
بدأ طارق يدخل في اللعبة . فقد استهوته مسألة الشيفرة ، وهذه التعقيدات المخابراتية وظن أنه سيكون جاسوساً من نوع جيمس بوند ، وعاود زكى يقول : حين تذهب إلى بيروت ، أريدك أن تفتح عينيك وأذنيك جيداً ، وتتعرف على الضباط الفلسطينيين في منظمة التحرير الفلسطينية . وأي ضابط تعرفه أو تتعرف عليه ، ادرس أحواله جيداً : كيف يفكر وكيف يعيش وهل هو متزوج أم أعزب وكم عدد أولاده ، وما هي أسماؤهم وأعمارهم ؟ وزوجته كيف تعيش ؟ وأهله وأقرباؤه ؟ وكم يتقاضى راتباً ، وكيف يصرف على نفسه وعمله وعائلته وهواياته ،وأي الصحف يقرأ . وما هي الأخبار التي تهمه ، وإذا قرأ خبراً في صحيفة هل يناقشه أو أنه يأخذه كما هو ثم هل هو متزن أم متهور ؟ وأصدقاؤه ؟ كل ما يمكن أن تجمعه من أخبار يا شيخ المشايخ فهمت :
مرة أخرى أومأ طارق برأسه قبل أن يستطرد زكى قائلاً :
Ø افعل هذه الأمور البسيطة ، دون أن تلفت إليك الأنظار .
ثم فتح زكى درج مكتبه وأخرج منه مظروفاً أصغر متوسط الحجم ألقاه أمام طارق قائلاً :
Ø إلى اللقاء بعد شهر يا شيخ المشايخ ، ولا تنس أن اسمك جونسون في الهاتف .
إلى بيروت
وصل طارق إلى بيروت وهو يفكر طيلة الوقت بالنقيب خليل ، مسؤول أمن "13 " في الحمراء . وحيت توجه إليه صباح اليوم التالي ، أحس برجفة تسرى في بدنه ، وحين عانقه تمنى لو أنه يستطيع إخباره بكل شئ لكنه فكر في شذوذه وفى الصور التي يحتفظ بها زكى ، وفى أهله ، فعدل عن تلك الرغبة التي راودته للحظة . شربا قهوة في المكتب وتحدثا عن لندن ونسائها والحياة فيها ، ثم عن بيروت وأحوالها . وعرجا على الأمور الشخصية فتحدث خليل عن الشئون المادية . وعند الظهر ذهبا إلى المطعم الصغير الكائن شفى جوار مبنى جريدة " النهار " حيث تناولا الغداء وتواعدا على اللقاء في اليوم التالي.
تعددت اللقاءات ، وتعددت الخدمات بينهما ، صارا صديقين حميمين يتغذيان معا ويلعبان " الفليبر " معاً .
وكان خليل دائماً يبدى استعداداً لحماية طارق من كل مكروه . حدثه عن زوجته القديمة وعن أولاده ، وزوجته الجديدة ، بل إن خليل دعا طارق إلى فنجان قهوة في غرفته التي يستأجرها على السطوح ، حيث تعرف على زوجته اللبنانية الجديدة وأدرك طارق أحوال خليل المادية ليست على ما يرام .
حان موعد السفر إلى لندن ، تأمل طارق المعلومات التي سيأخذها معه فوجد أنها تافهة ولا تستحق . فكل ما لديه من معلومات لا يتعدى
الشخصية : ضابط في منظمة الصاعقة .. الجنسية متزوج مرتين وله ولد واحد .. مسئول الأمن في مكتب" 13"- منطقة الحمراء ومتهور وقراءته قليلة جداً ولا يناقش الأمور ، وأية أخبار تصله ينقلها كما هي ولا يحلل أخبار الجرائد . ولا يحاول النظر في العمق ولا في ما هو أبعد ، يقضى أكثر من أربع ساعات يومياً في لعب " الفليبر " فهل هذه معلومات تستحق أن تدفع فيها إسرائيل كل هذه المصاريف من تذاكر وسفر وشقق في لندن ومشروب ونساء ودولارات ؟ وللحظة ، أعتقد أن الإسرائيليين أغبياء وان في " الموساد " ضباطاً كل همهم تسجيل مواقف وأعمال تبريراً لما يلهفونه من فلوس . فإذا أعطاه زكى 350 دولارا ، فانه بالتأكيد يكون قد سجل أنه أعطاه 2500 دولار .
في مطار هيثرو ركب قطار " الاندرجراوند " إلى نايتسبردج. ومن هناك استقل سيارة تاكسي إلى العمارة التي كان يسكن فيها حيث وجد شقته في انتظاره ، إيجارها مدفوع والبواب يحتفظ له بالمفتاح .
تمدد في الشقة قليلاً ثم نهض واغتسل ونزل إلى الشارع يبحث عن هاتف عمومي . اتصل بالسفارة قائلاً :
Ø " أنا جونسون وهذا رقم هاتف ... أريد أن أتحدث مع زكى لو سمحت ، ثم أقفل الخط وعاد إلي الشقة ينتظر . حوالة التاسعة مساء قفز من السرير كالملدوغ حين رن جرس الهاتف إذ يبدو أنه كان متعباً فغفا بعض الوقت رفع السماعة فإذا زكى على الخط يقول له :
Ø الحمد لله على السلامة يا شيخ المشايخ .
ورد طارق :
Ø شكراً لقد وصلت اليوم إلى لندن . كم الساعة الآن ؟
فقال زكى :
Ø الساعة التاسعة . بإمكانك أن تسهر هذه الليلة . وغداً تأتى إلى مكتبى في كنزنجتون الساعة الخامسة بعد الظهر .
قال طارق :
Ø " أوكى " .
ثم سمع زكى يضع السماعة على الطرف الآخر لتنتهي المخابرة عند هذا الحد .