أضاءت مصباحها اليدوي وعلى مقعد متهالك جلست لتقرأ ما جاءها به من تقارير ملأت تسع صفحات... وما ان انتهت حتى قذفت بها إلى وجهه غاضبة، فانكمش مذعوراً متوقعاً لكل شيء، غذ تحول جمالها إلى توحش مخيف، وانطلقت نظراتها كالسهام الحارقة مع سيل من السباب لجهله بأمور التجسس التي تدرب عليها، وافتقاده للحس الأمني في الرصد والتحركات وإدارة الحوار.
رغم ذلك أعطته خمسمائة ليرة، وأخضعته لدورة تدريبية أخرى أكثر تكثيفاً وحرفية ... وحددت له مهاماً بعينها عليه القيام بها دون غيرها، وطلبت منه أن يزور صديقه نايف البدوي ويوطد علاقته به نظراً لموقع قريته الحدودية الهام.
استقر كمال المحمودي ببيروت بعدما عمل بإحدى الصحف، كانت أشعاره الوطنية تجد مساحة كبيرة على صفحاتها... وبدأ النحس الذي لازمه لحقبة طويلة من حياته ينحسر، ويموت يأساً... لقد كان شديد الحساسية عندما يتكلم أو يكتب عن القضية الفلسطينية واللاجئين والمقاومة .. فقربته كتاباته من رموز الثورة وكبار رجالها... وغدت زياراته لمعسكرات التدريب ومشاهداته عن قرب للشباب الفدائي ... بمثابة طلقات رصاص يطلقها قلمه. ز فانكب يحارب بالكلمة لا يستقر له بال أو يهنأ بالقرار.
زاره أحمد ضاهر بمسكنه ففرح به، وسهرا طويلاً يستعرضان معاً حياتيهما في الماضي، وأحلامهما التي وندت قهراً لحين، ولم تكن الزيارة بريئة هذه المرة، فالغرض منها معروف... والمكاسب المادية الثمينة التي سينالها من جراء معلومات المحمودي عن المقاومة أغلى عنده من الصداقة.
كان قد تعلم جيداً كيف يستخرج الأسرار من عقل محدثه عندما يستثيره ويجادله... أو يجله ويقدره... لكن الحال هنا مختلف، فصديقه ورفيق أحلامه لم يكن ليبخل عليه بأدق المعلومات التي يعرفها عن الثوار والقيادات الفلسطينية... بما فيها تلك الأسرار المتداولة في دهاليز مراكز القيادة الحيوية...
تلك المعلومات كانت سبباً رئيسياً في حصوله على آلاف الليرات من خزينة الموساد، فأغرق صديقه بالهدايا دون أن يدري بأن حديثه العادي مع رفيق عمره... ينقل أولاً بأول إلى إسرائيل، ويخضع لتحليلات خبراء الموساد واهتمامهم البالغ.
ولنرجع إلى قرية يارين في الجنوب، حيث يعيش نايف البدوي أسوأ ظروف مادية تعصف به، استغلها ضاهر جيداً في التأثير عليه، وتطمينه بإمكان حصوله على فرصة عمل ممتازة بإحدى الوكالات العالمية دون أن يبرح قريته.
تملكت نايف الدهشة من العرض المغري وتساءل عن ظروف العمل، فأخبره بأن وكالة أنباء عالمية في نيقوسيا، تدفع بسخاء لمن يوافونها بأخبار صحيحة ووافية عن حركة المقاومة الفلسطينية في الجنوب...
سر نايف المتعسر بهذا الأمر وأبدى بحماس شديد رغبته في العمل ... فوعده صديقه بأن يسعى لدى مقرهم في بيروت لقبوله.
مرت بنايف الأيام الطويلة المضنية، وكلما عصرته الحاجة ونهشه العوز، أسرع لصاحبه يرجوه بألا يهمل أمره... فيجيبه ضاهر بأنه تقدم بالفعل بطلب في شأنه ولم يقرروا بعد. وكان يقصد من التأخير والمماطلة حرق أعصابه... وإشعاره بأهمية التعاون مع الوكالة للخروج من أزمته...
إنه أسلوب آخر في عالم المخابرات الجاسوسية، يعرف باسم "الاختناق CHOKED "ويعتمد على محاصرة من يراد الإيقاع بهم في شرك الخيانة بعد دراسة شتى ظروفهم الحياتية، ومدى معاناتهم النفسية، وتضييق الخناق عليهم مع إعطائهم ثمة أمل في مخرج ما لمشاكلهم... دون وعد قاطع..
هكذا يظل هؤلاء يحلمون بانفراجة قريبة تبدل حياتهم... إلى أن يقعوا يأساً أو يتغابوا مع علمهم بالجرم.
كان ضاهر قد تسمم دمه بالخيانة ... فلم يعد هو ذلك الإنسان البسيط الحالم العاشق للطرب... إذ أجاد مهمته بالتدريج في عالم التجسس... ومضى بخطى ثابتة في بيع عروبته بثمن بخس.
إن ظروف الخائن النفسية وصراعاته الداخلية المعقدة... تدفعن دائماً لأن يمقت الأسوياء من حوله... ويحتقر ذاته كلما جلس اليهم أو جالوا بباله... ولذلك يسعى في الغالب للانتقام منهم في دخيلته، وقد يتحول هذا المقت إلى محاولة جرهم معه لمستنقع الخيانة.
ويسجل لنا تاريخ الجاسوسية الإسرائيلية في الوطن العربي، نماذج متباينة من هؤلاء المرضى بالخيانة، إنها حالات قليلة جداً وشاذة (1)، تلك التي أظهر فيها الخائن بغضه لأقرب الأقربين إليه فلطخهم بعار الخيانة مثله.
ولو عدنا لأحمد ضاهر ... لتبين لنا مدى كراهيته لكمال المحمودي ونايف البدوي – أقرب أصدقائه – وحرصه في قرارة نفسه، وبأي ثمن، على دمجما في شبكته ... فتتساوى بذلك الخيانة.
فالأول يمثل لديه رمز الوطنية الصادقة، والثاني يمثل الصبر وتحدي الظروف والقوة. ولأنه إنسان ضعيف ... مريض... محتقر من ذاته، كبر لديه الاعتقاد بأن مسألة إغواء أي مخلوق عملية سهلة إذا ما درس ظروفه النفسية بعناية. من هنا، نسج خيوط شبكته حول صديقيه، مبتدئاً بأضعفهما مقاومة – نايف البدوي – مستخدماً معه أسلوب الاختناق CHOKED تمهيداً لشل تفكيره وهرس مقاومته.
التسليم والتسلم
عام 1969 وفي النصف الثاني منه بالأخص، اشتدت ضربات المقاومة الفلسطينية ضد إسرائيل... ووجد المستوطنون اليهود في المستعمرات الشمالية ... أنهم هدفاً لضربات ناجحة بدلت أمنهم إلى رعب دائم... وحدث أن تسلل أربعة شباب من الفدائيين بأسلحتهم وذخيرتهم... وتمكنوا من الوصول لمستعمرة "زرعيت" في الجليل الفلسطيني المحتل... على بعد عشرين كيلو متراً من الشاطئ... وقاموا بعملية فدائية خارقة للغاية قتل فيها أحد عشر صهيونياً، وأصيب العشرات منهم، واختفى الأبطال بعيداً عن المنطقة التي حوصرت... مجتازين جميع نقاط التفتيش الصارمة في كل مكان.
هذا الحادث هلل له الفلسطينيين واحتفلوا بأبطاله... بينما كان العكس في إسرائيل، إذ أقيل عدد من الضباط وأخضع آخرون للتحقيق والمجازاة... واستدعى الأمر حدوث تغييرات فورية في الخطط الأمنية حول المستعمرات ... والنظر في تنشيط وفاعلية شبكات الموساد في لبنان.
من أجل ذلك أوصى تقرير خطير لخبرات الموساد... بضرورة العمل على تجنيد أكبر عدد ممكن من سكان الجنوب اللبناني ... ليكونوا عيوناً لإسرائيل ترصد تحركات المقاومة في مهدها أولاً بأول ... وتخصيص ميزانية خاصة للنشاط الاستخباري في لبنان ودعمه بأكفأ الرجال والتقنيات الحديثة.
أحد الذين طالتهم يد التغيير نورما عساف، حيث جرى سحبها إلى إسرائيل واستبدلت بضابط ماكر خبير بشؤون لبنان وبشبكاتهم بها... فكان عليها أن تجري مقابلات سريعة بعملائها فيما يعرف باسم "التسليم والتسلم" في عالم المخابرات، وفي المقهى المطل على مصب نهر الليطاني بالقرب من جسر القاسمية التقت بأحمد ضاهر الذي تملكته فرحة عارمة عندما أنبأته بانتهار مهمتها معه... وأن زميلها "أنطوان شهدا" سيتولى أمره.
تعهد به انطوان منذ تلك اللحظة ... وبعد مقابلات مطولة بينهما في المنزل الخشبي ببساتين نهر الكلب، أصدر له أوامر صريحة بتجنيد نايف البدوي ... بعدما استعرضا معاً كافة جوانب حياته وظروفه... أما كمال المحمودي فقد رأى أنطوان أن ينتظر عليه قليلاً حتى يدرساه بشكل أفضل... وتحين الفرصة الملائمة لضمه.
تقارير ضاهر السابقة أكدت بأن المعلومات التي يحصل عليها منهما لا تقدر بثمن... وكانت رؤية انطوان خبير الموساد المحنك بالتعجيل في تجنيد نايف ... وتأجيل امر كمال... تنم عن فهم وإدراك لحساسية الأمر وخطورته... وبعد نظره الناشئ عن خبرة طويلة في العمل المخابراتي، لكن دائماً تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن.
كالحية الرقطاء مبتسماً تقابل ضاهر ونايف في يارين... مهنئاً بموافقة وكالة الأنباء على العمل معها، واختصه وحده بموافاتها بأخبار المقاومة وأسرار تحركاتها... وبأن الوكالة قررت راتباً شهرياً له مقداره ثمانمائة ليرة "كان الرقم مغرياً جداً وقتذاك" وشرع في تلقينه مهام عمله الذي يجب أن يكون سرياً للغاية.. فالوكالة كماأخبره تسعى دائماً إلى الانفراد بالأخبار... وتدفع مكافآت تشجيعية كبيرة لمن يوافيها بتحركات رجال المقاومة قبل قيامهم بالعمليات.
دهش نايف لما يقوله صاحبه.. وعلق على ذلك بقوله أنه سيقوم بعمل الجواسيس إذن... فما كان من صديقه إلا وأن راوغه، متعللاً بأن المال يصنع كل شيء... وأنه بالعمل مع الوكالة سيخرج من أزمته المالية بسرعة الصاروخ.. فلكل خبر مهم ثمن ... ولكل تكاسل عقاب بالحرمان من المكافآت التي ستنهال عليه..
قال ذلك بينما كان يناوله ألف ليرة كمقدم "أتعاب"... فحملق المحروم في الليرات فرحاً وقال: "نعم ... إن المال يصنع كل شيء، وأنا بحاجة إلى المال ولو بعت نفسي إلى الشيطان".
هكذا سقط نايف البدوي ... وتفرغ لعمله السري في البحث عن خبايا المقاومة والمنظمات الفدائية... التي يجوب أفرادها القرية الحدودية ليل نهار... وانكب يكتب تقارير يومية تفصيلية عن مشاهداته ومسامراته ويسلمها أولاً بأول لصديقه... ولما كانت معلوماته تمثل لدى أنطوان درجة عالية من الخطورة ... بادر بضرورة تدريب أحمد ضاهر على استعمال اللاسلكي في الإرسال والاستقبال، ذلك لأن المعلومات الخطيرة عن الفدائيين، يجب بثها إلى الموساد قبل اجتيازهم للحدود للقيام بعمليات انتقامية في الداخل...وكان "البيت الآمن" على نهر الكلب أصلح مكان سري للتدريب.