الزلازل تقضي على ازدهار بيروت
كانت منسوجات بيروت من الصوف والكتان مشهورة في كل الأصقاع، بعد أن أصبحت بيروت مركزاً لتجارة الحرير والمنسوجات الحريرية، وكانت صور تنافسها في ذلك.
ويروي الشاعر نونُّس، أن الكروم كانت تكسو ربى بيروت بثوب سندسي يروق للنظر. وقد امتدح بلينيوس الطبيعي، عنبها اللذيذ وخمرتها الطيبة (Berytia Vina).
وقد ساعد على ازدهار بيروت الأقنية التي اصطنعها الرومان لسحب المياه الجبلية إليها، فأقيمت قناة لإمداد المدنية بالمياه {قناطر زبيدة} في وادي (Magoras)ـ نهر بيروت ـ، وذكرها صالح بن يحيى بقوله: {أما القناة التي كانت تجري إليها فهي من مكان يُسمى العرعار من أرض كسروان قيد أثنى عشر ميلاً}.فلا عجب إن توفرت بذلك محصولات بيروت،حتى كانت تنقل إلى غيرها من البلاد. لكن هذا الازدهار الكبير سرعان ما بددته الزلازل الهائلة التي تعرض لها، وكان الزلزال الأول الذي ضرب المدن الساحلية، وخاصة صيدا وصور، سنة 306م. أما الزلزال الأول الذي أوشك أن يدمر بيروت تماماً، كان سنة 349م، زمن الإمبراطور كونستانس، فقد دمر هذا الزلزال الجزء الأكبر من مدينة بيروت، ووصل الجزع بالوثنيين من سكانها، في حينه، إلى حد جعل معظمهم يطلب التعمد، وأدى قبولها الكثيف إلى بعض الاضطرابات في الكنيسة المسيحية. وبعد زوال الخطر عاد قسم منهم إلى الوثنية، وتمذهب قسم آخر بمذهب جديد بين معتقدات النصرانية وخرافات الوثنيين.
لكن بيروت ما لبثت وأن نزعت عنها ثوب الحداد، وعادت إلى ما كانت عليه من الشهرة في تدريس الفقه والعلوم. ثم شعر أهل بيروت بهزات خفيفة سنتي 494 و502م، حتى كان زلزال ليل 21-22 آب عام 502، الذي دمّر فقط كنيس اليهود في بيروت، بينما تهدمت مدينتا صيدا وصور جزئياً، ومدينة عكا كلياً، وفي 26 أيار سنة 529م، ضرب زلزال جدديد قسماً من أبنية بيروت، وهلك جانباً من سكانها. وكذلك في سنة 543م تخَّرب قسم من بيروت. ومع ذبك بلغت مدينة بيروت أوج عزِّها، في عهد جستننيان (527-565م) الذي طلب من الفقهاء وضع دستور الشرائع الجامع للقوانين الرومانية، وكان من بينهم ثلاثة من أساتذة مدرسة بيروت الفقهية، وهم أوداكسيوس البيروتي واناطوليوس ودوروتاوس، ولقّبت بيروت وقتها بأم العلوم والشرائع. لكن الزلازل لم تترك بيروت تفرح بازدهارها، ففي 9 تموز سنة 551م اهتز الساحل اهتزازاً شديداً، تبعه جذر في البحر وحريق، واشتعلت النيران في بيروت بعد دمار المدينة، لمدة شهرين، حتى ذابت الأحجار وتكلست، وتحطمت السفن، ودمرت كل أبنية بيروت الشامخة البديعة المنظر، ولم يبق منها إلا ردم وخراب. وقد هلك تحت أنقاضها ألوف من أهلها، ومن نخبة الشبان الذي قصدوا بيروت من العالم أجمع لدراسة الحقوق في مدرستها الشهيرة. وقد اضطرت الدولة إلى نقل هذه المدرسة إلى صيدا، ريثما يتجدد بناء المدينة ومدارسها. وقد ساعد الإمبراطور جستنيان في التفتيش عن جثث الضحايا ودفنها، وأعيد بناء قسم من المدينة، رغم وقوع زلزال آخر سنة 554م. وأوشكت الأمور أن تعود كما كانت في السابق، لولا نكبة الحريق التي حلت ببيروت سنة 560م، فشبت النار في بيروت والتهمت معاهدها، ودور سكانها. وإلى حادثتي سنة 551م وسنة 560م، أشار أحد شعراء أسبانيا يوحنا بربرقلوس، في قصيدة له عن لسان بيروت يقول فيها:
{{ أنا أشأم المدن طائراً، وأسوأهم حالاً. رأيت جثث أبنائي تغطي ساحاتي دفعتين في ظرف تسع سنوات. رماني فلكان (آلهة النار) بسهامه النارية، بعد أن صدمني نبتون {آلهة البحر ومزلزل الأرض). واأسفي على جمالي السابق، مسحة الدهر فأحالني إلى رماد: فتلهفوا، أيها السفر، على سوء طالعي، واندبوا بيروت المضمحلة }}. وهذا دليل على خراب بيروت التي لم تبلغ مقامها السابق بعد تلك النكبات، ولم تفلح الإصلاحات التي أقيمت في عصر جستنيان، بهدف إعادة مدينة بيروت إلى صورتها الأولى.