في علم النفس يسمى الداء انطواءً او توحداً حين يصبح المريض عاجزاً عن التواصل مع كل من حوله وغير قادر على تعلم اي شيء. في السياسة يسمى حكم البعث في عصر انحداره. وكأن العوارض الصدّامية راحت تتكرر عند المتبقي من البعثَين في دمشق حيث عنوان المرحلة رفض عنيد لـ... الواقع بلغ اوجه هذا الاسبوع في مناسبة الزيارة غير الودية التي قام بها نائب وزير الخارجية الاميركي ريتشارد ارميتاج الى قصر قاسيون.

في ما مضى كان يمكن الاكتفاء بتشخيص انتفاخ للذات البعثية، مثلاً عندما اعتبر الحكم السوري ان الاستغناء عن فاروق الشرع في وزارة الخارجية، بعد كل ما راكمه من اخطاء وعقم سياسي، واستبداله بديبلوماسي آخر معروف بسعة علاقاته الغربية، والاميركية تحديداً، يتطلب ان تقبض دمشق ثمناً ما، كمن يقول انه لا يريد ان يحسّن وضعه الا اذا كوفئ مسبقاً على رداءته. كذلك كان يمكن رصد تباطئ في الحركة، مثلا في تأخير الاصلاح السياسي والاقتصادي، او تشوّش في المنطق يفضي الى تقديم حسابات زبائنية قصيرة الاجل على مصلحة الدولة والمجتمع، مثلما حصل ويحصل في التعيينات لمناصب اساسية لعملية الاصلاح.

لكن الداء بلغ الآن مبلغاً اكثر خطورة، اذ لم يعد يتجلى في رفض ما يقال، بل صار في رفض سماعه. والحق ان العوارض المشيرة الى مثل هذا التدهور ظهرت الصيف الماضي عندما خاض الحكم البعثي "ام المعارك" من اجل التمديد لرئيس الجمهورية اللبنانية المنتهية ولايته والفاشل عهده. فهو لم يكتف بما اعتاده من احتقار للطبقة السياسية اللبنانية، بدءاً بمَواليه، بل ذهب الى حد تجاهل كل التحذيرات الآتية من الخارج أكانت باللغة الفرنسية ام الانكليزية ام حتى الاسبانية. ثم سُجل تدهور اضافي امكن رصده من خلال اداء وزير الاعلام وقتئذٍ احمد الحسن، الذي حاول ان يقنع نفسه ان القرار 1559 يعني الاحتلال الاسرائيلي وليس القوات السورية المرابطة في لبنان.

الوزير الحسن لم يعمّر في وزارته وجاء من يدعي عقلنة الاعلام السوري الرسمي. الا ان عدواه انتقلت في هذا الوقت الى دوائر دمشقية اوسع (وأرفع)، على ما يبدو من السجال الغريب العجيب حول ما قاله ارميتاج في دمشق وما تقول دمشق انه لم يقله. السجال مريب فعلاً، او لنقل ان المريب هو موقف الحكم السوري وابواقه فيه. فبالافتراض ان ارميتاج لم يقل في لقاءاته مع المسؤولين السوريين ما تدعي دمشق انه لم يقله، ما الذي يكون قد تغير؟

في النهاية قال ارميتاج في العلن ما تقول دمشق انه لم يقله. والاهم ان عدداً من المسؤولين الاميركيين الآخرين رددوا في الايام التالية، وايضاً في العلن، ما تقول دمشق ان ارميتاج لم يقله.

للتذكير، ما قاله ارميتاج وادّعت دمشق، ولا تزال، انه لم يقله يرقى الى تهديد غير مبطن للحكم السوري، سواء في ما يتعلق بإيواء مسؤولين سابقين في مخابرات صدام حسين (وكأنه لا يكفي السوريين في كنف البعث المتبقي ما يحوطهم من مخابرات)، او بتنفيذ القرار 1559 القاضي بانسحاب القوات السورية من لبنان ووضع حد لهيمنة حكم البعث عليه. انه تهديد، ليس الا. يمكن استهجانه، وما اكثر الذين ينزعون الى استهجان لهجة التهديد الاميركية في عصر الشرق الاوسط الكبير. يمكن ايضاً الخضوع له، وان جزئياً، سعياً للسلامة. ويمكن حتى الاستخفاف به. ولكن ما لا يعقل هو الادعاء ان التهديد غير موجود. فمثل هذا الادعاء لا يفيد حتى لشراء الوقت.

ولكن ماذا لو كان الحكم البعثي يتبع خطة يعدها اكثر ذكاء؟ فقد يكون قرر مثلاً تيئيس من يصر على محاورته. ترون؟ نحن لا نفهم ولا نريد ان نفهم، فلا تضيعوا وقتكم معنا.

الخطة قد تكون ذكية لو ان المحاورين هم من الزبائن المعتادين في لبنان. لكن ما يصلح مع من لا يتنفس الا برضى الحكم البعثي، لا يفيد مع الجبار الاميركي في عز صلفه. فعنده ان عدم تضييع الوقت بالكلام، يعني الانتقال الى وسائل اكثر نجاعة.

واكثر ايلاماً.

عودة لصفحة سمير قصير

عودة لصفحة السلطة الرابعة