ما الذي ينتظره رفيق الحريري بعد ؟ الحكم السوري دفع به الى موقع المعارضة، والسلطة القائمة في لبنان تتعامل معه على اساس انه في المعارضة، والمعارضة نفسها تتضامن معه وكأنه من مكوناتها الاساسية، لكنه يفضّل الانتظار كأنه يملك خياراً آخر. يكتفي بانتداب نواب قريبين منه الى اجتماعات المعارضة ولا يحسم امره.

في ما مضى، عوّدنا الحريري ان يبقى اسير حسابات متناقضة فلا يختار حين يجب ان يختار قبل ان ينتهي بالانحناء امام العاصفة، ويروّح الفرصة تلو الفرصة. ولكن اين العاصفة اليوم؟ اذا كان من عاصفة، فان رياحها لا تهب من دمشق في اتجاه بيروت، كما يعرف الحريري من لقاءاته المتكررة مع السفراء الغربيين. بل يعرف الحريري اكثر من غيره ان اي عاصفة لن تهدد بكسر الجرّة بينه وبين الحكم البعثي، اذ انه سبق للجرّة ان تحطمت شر تحطيم منذ اقتنع اركان الحكم في دمشق، وإن خطأَ، بان الحريري كان وراء القرار 1559. واذا كان لا يزال يملك اصدقاء هناك، فهو على علم، ولا ريب، بانهم باتوا غير وازنين في معادلة المتبقي من البعثَين. ام تراه هواه القومي العربي، كما كان يدعي احياناً، ما يمنعه من مجاراة وليد جنبلاط؟ تلزم "براءة" عاصم قانصوه للاعتقاد ان القومية العربية تبرر الاستبداد، وتملي على الحكم الدمشقي اخضاع لبنان، بعد سوريا، الى حكم مافياته.

قد يكون سبب تأخّر الحريري انه ببساطة ينتظر ساعته. حسناً، ولكن الا يخاطر إذذاك بأن يفوته الوقت؟ او ان يفوت المعارضة؟ ذلك ان التحاق الحريري بها ليس تحصيلا حاصلا. فاذا كان انضمام الحريري الى جبهة المعارضة غير سهل عليه، فانه غير سهل ايضاً على اطراف كثيرين فيها. لكن حال المعارضة مع الحريري شائكة: من دونه تفقد الكثير، ومعه تغامر ايضاً بالكثير. ففي ازاء وزنه الانتخابي الحاسم في اكثر من منطقة، وليس فقط في بيروت، هناك صعوبة تسويقه عند الفئات التي ليست معه اصلاً.

وفي هذا المعنى، لا يملك الحريري المتسع من الوقت، مثلما لا يملك حرية حركة كاملة بسبب هذه الصعوبة في تسويق صورته. وقد يكون من واجبه، ان قرر الالتحاق بالمعارضة واراد انجاحها، ان يساعد حلفاءه على القيام بالتسويق الضروري او، بتعبير ادق، على تبديد اللغط الكبير الذي يحوط تجربته في الحكم.

المسألة ليست في تقديم الحريري اوراق اعتماده الاستقلالية. فمتى وافق على "وثيقة البريستول"، يكون قد وافق عليها بكاملها، وان تحفظ على هذا البند او ذاك، على غرار ما فعله آخرون. كما انها ليست في مدى التزامه خط المعارضة، اذا التزمه، حتى النهاية. فالشكوك، وان تكن مشروعة، تنطبق على جميع الاطراف في المعارضة، وتبديدها يأتي في جميع الاحوال من نجاح اللائحة الجمهورية الآخذة في التكون، في المحافظة على دينامية هي الضامن الوحيد لتماسكها، وهو على الارجح سر "التصعيد" الذي يقوم به يومياً وليد جنبلاط.

هنا ايضاً، ومثلما هي الحال مع بعض الاطراف المسيحيين في المعارضة، لا بد من صراحة مطلقة. وهذا يعني ان مقتضيات تصحيح صورة الحريري، اذا قرر الالتحاق علناً بالمعارضة، تتصل بما يعتبره هو نقطة قوته، اي وزنه السياسي والمالي من جهة، ومشروعه للبلاد من جهة اخرى. فمشروع الحريري بحاجة الى ان يعيد صاحبه تفصيله ليس لسبب الا لمنع المعادلة التي توازي بين هذا المشروع والمديونية العامة. اي ان على الحريري ان يدحض، اذا استطاع، التهمة التي تحمّله وحده مسؤولية الديون. لكن ذلك يتطلب منه تصرفاً سياسياً ليس من عادته. فحسابات الدولة السيئة لا تختصر بمسؤوليته الشخصية، وان يكن غير جائز اغفالها، ولا بد تالياً من استذكار حصة رئيسي الجمهورية اللذين عاصرهما، والرئيس الأوحد لمجلس النواب، فضلاً عن شركاء آخرين، ومن دون ان ينسى كلفة الاجهزة الامنية ولا ما كان يتم اقتطاعه على يد المافيات اللبنانية – السورية. اما اذا فعل الحريري ذلك، فيكون قد قرر فعلاً اجراء قطيعة مع نزعة التسوية، بل المهادنة واحياناً الاستسلام، التي لازمت تجربته في الحكم.

غير ان اعادة تحديد المشروع السابق، لا تُغني عن تحديد مشروعه للمستقبل، وتحديداً لجهة السياسة الضريبية التي ينحاز اليها، وهي تقوم على توزيع الضرائب على اوسع قاعدة من المواطنين مع تخفيف الاعباء عن الميسورين والشركات. بالتأكيد، ان هذه المدرسة الاقتصادية هي التي تهيمن اليوم في العالم، الا انها ليست الوحيدة. والمطلوب من الحريري، في اي حال، ان يتخلى عن اي صلف في الدفاع عن خياره المالي والضريبي، ومبارحة منطق "انا وحدي على حق وما بقي كلام تنظير".

وهذا يقودنا الى موضوع الوزن المالي والسياسي للحريري الذي اتاح له على الدوام تصرفاً احادياً، اللهم مع الذين يملكون القوة. فمع هؤلاء، من عادة الحريري ان يلين ويستسلم. اما مع الآخرين فكان شراء الذمم واحياناً الوعيد. هذا فضلاً عن ضيق صدره مع الاعلام حين لم يكن بحاجة اليه. واذا كان صحيحاً ان الحريري عدّل من هذه الممارسة بعد مرحلة تغييبه عن السلطة في اول عهد الرئيس اميل لحود، الا انه لا يزال يعاني من سمعته القديمة في اوساط عديدة.

الحريري، إن عارض، لن يكون رجلاً جديداً. لا بأس، فحاله في ذلك حال معظم حلفائه المحتملين في المعارضة. لكن الحريري، إن عارض وشاء انتصار المعارضة، عليه على الاقل ان يرى في الصفحة الجديدة فرصة ذهبية لتجديد نفسه، فعساه لا يفوّتها هذه المرة.

عودة لصفحة سمير قصير

عودة لصفحة السلطة الرابعة