لو لم يكن اصل الموضوع مأسوياً، لكان توجّب التنويه بروح الدعابة الأممية التي تتبدى في حلول القرار 1595 مكملاً للقرار 1559. في الحالين، يكون النظام الامني اللبناني، ومعه راعيه البعثي في دمشق، قد "نجح" في سحب الورقة الخاسرة، وقل انه قد حاز "الجائزة الكبرى". "جائزة" الخسارة الكبرى!
فلا يخطئن احد ان التفويض الممنوح الى لجنة التحقيق الدولية في مسألة اغتيال رفيق الحريري يعني تقويضاً مباشراً للنظام الامني، او ما تبقّى منه. وقد جاءت المحاولات البائسة، والعديمة الذكاء، التي بذلها الحكم القائم في لبنان من اجل تعديل مشروع القرار، لتدل على ما سوف يقض مضاجع مسؤولي هذا النظام الامني عندما تبدأ لجنة التحقيق عملها. بل ان مفاعيل القرار 1595 سوف تتجاوز مجرد التقويض لتفضي الى نهاية النظام الامني.
قد يخشى البعض ان يكون عمل لجنة التحقيق محدوداً بسبب غياب الادلة، او بالاحرى تغييبها، بعد مرور نحو شهرين على الجريمة. ولكن اذا ما تذكرنا ما وصل اليه طاقم صغير من المحققين المهنيين في اطار لجنة تقصي الحقائق برئاسة بيتر فيتزجيرالد، يمكن تصور الى اي نتائج سيتوصل العشرات من المحققين الدوليين حين "يفلتون" في بيروت ومعهم صلاحية استجواب من يشاؤون استجوابه. واضعف الايمان ان عباقرة الامن المخصص لمصلحة الطغمة الحاكمة في بيروت، ومن وراءها في دمشق، سوف يكتشفون بسرعة عندئذ ما ادركه الشعب اللبناني في الاسابيع الاخيرة، وهو ان لا كبير الا الجمل. ولعل هذا ما سيلمسه قبل غيرهم العناصر التابعون الى هؤلاء العباقرة، ان لم يلمسوه بعد، فيتحررون بدورهم من عقدة الخوف وسليقة المأمور.
قطعاً، لقد دنا وقت الحقيقة وانطلقت آلية المحاسبة.
ولا يخفف من اهمية هذه اللحظة ان القرار 1595 يحصر صلاحيات لجنة التحقيق في الاراضي اللبنانية دون السورية. اولاً لأن اكتشاف اي خيوط تفضي الى دمشق سوف يسترعي، اذا تم، تحركاً جديداً لمجلس الامن من اجل استكمال التحقيق، وخصوصاً ان العجز المزمن للحكم السوري في استقراء مجريات السياسة الدولية لا يستجلب له الكثير من التعاطف. وثانياً لأن اضطرار هذا الحكم الى القبول بالقرار 1559 وتنفيذ ما يتعلق به منه، انهاءً لوصايته على لبنان، يمثل في ذاته عقاباً ما بعده عقاب، اللهم العقاب الذي سيصدر، ولو بعد حين، من الشعب السوري.
ملاحظة على الهامش توجّه الى من قد يتساءل في سوريا عما جرى ليستحق المتبقي من البعثَين هذا المصير: الجواب هو لا ريب ان الافراط في التذاكي يؤدي الى عكس مبتغاه حين لا يكون مسنوداً بثقافة سياسية حديثة. في عهد حافظ الاسد على الاقل، كانت مهمة التذاكي منوطة بوزراء الخارجية والاعلام والدفاع. اما في عهد ابنه بشار، فقد استوطنت هذه النزعة اعلى الهرم حيث لم يعد ممكناً ستر ما تكشف عنه، وآخر نموذج عن ذلك ما جاء على لسان الرئيس السوري في مقابلته مع احد التلفزيونات التركية. فمما قاله بشار الاسد (اذا لم يصدر تصحيح رسمي، على جري العادة المستحدثة)، انه لا يعبأ بأن ينعته الاميركيون بـ"الديكتاتور"، وانه لن يتأثر بمثل هذا الاتهام الا اذا صدر عن الشعب السوري! ربما لم ينتبه عاشق الانترنت الى المواقع الالكترونية السورية التي كانت ستنبئه بأن الشعب السوري موضوع تحت الاقامة الجبرية وفي حراسة قانون الطوارئ منذ اكثر من اربعين سنة. ومما قاله ايضاً انه لم يصل الى السلطة من طريق انقلاب عسكري. صحيح، هو لم يقم بانقلاب عسكري، بل اكتفى بوراثة نظام الانقلاب. لكن الاكثر دلالة في هذا المقابلة قول الاسد انه "لولا التدخلات الخارجية لقطعنا شوطاً كبيراً في عملية الاصلاح"! والحقيقة ان لا رد على مثل هذا الادعاء الا بنموذج "الاصلاح" اللبناني حيث لم يُقطع الشوط الاكبر في العملية، وصولاً الى انهاء الهيمنة البعثية، الا بتضافر "التدخلات الخارجية"، وعنوانها القرار 1559، والضغوط الداخلية. وللقصة تتمة... في سوريا.
اما في لبنان، فالقصة انتهت او لنقل انها شارفت نهايتها الموعودة بعد ثلاثة اسابيع في 30 نيسان. وبالاذن من الذين يرتعدون من مجرد شم رائحة "الاجندات" الاجنبية، فأنه بات لزاماً الاقرار بأن ما يضمن طي هذه الصفحة يكمن في وجود آليات دولية، سواء أكان اسمها لجنة التحقق من تنفيذ الـ 1559 أم لجنة التحقيق المشكلة وفق الـ1595، اكثر مما يكمن في معارضة مشلولة، وكأنها تخاف من المارد الذي اطلقته، فتكاد تفقد اجماعها لحظة يجمع مجلس الامن الدولي حول مصير بلادها.