الجزء الخامس

دروس وعبر  ودور العلماء

نتقل بعدها إلى ذكر بعض الدروس والعبر، وكل ما ذكرته من أسباب هي دروس وعبر، فاستمعوا - بارك الله لنا ولكم - إلى هذه الدروس، عسى أن نتعظ ونعتبر، حتى لا يحل بالمسلمين ما حل بغيرهم فنقول:

من أبرز الدروس: دور العلماء: وذكرت لكم أن من أسباب سقوط الأندلس، عدم قيام بعض العلماء بواجبهم، ومع ذلك فإننا نجد أن هناك من قام بواجبه والعلماء هم سراج الأمة. إنني أوجه حديثي مرة أخرى، فأقول لعلمائنا ولمشايخنا ولطلبة العلم من أمثالكم: الله الله في أمتكم، الله الله أن تفرطوا، مروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر وبهذا نحفظ كيان الأمة، العلماء هم ورثة الأنبياء. كما في الحديث (الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، ولكن ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر).

 
 قلنا لكم هناك من وقف كأبي الوليد الباجي وابن عبد البر وأبي حيان الأندلسي وابن حزم وغيرهم، ولكن المأساة أنهم لم يستمع لهم، وهنا نقول: يجب على العلماء أن يؤدوا واجبهم حتى لو لم يستمع لهم (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ) (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) يأتي النبي معه الرهط، يأتي النبي معه الرجل والرجلان، يأتي النبي وليس معه أحد " لكنه لا يمنعه من قول الحق، ومن الدعوة إلى الله، هذا درس مهم من دروس الأندلس، ولنا عبرة ولنا عظة ولنا ذكرى.


يقول ابن حزم، مبينا دور العلماء: فالمخلص لنا فيها - يقصد معشر العلماء - يعني من هذه الفتنة، التي حلت بالأندلس، الإمساك للألسنة جملة واحدة إلا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمؤسف أن كثيرا من طلاب العلم، يمسكون عن، أو لا يمسكون عن شيء إلا عن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر وابن حزم يقول: يجب أن نمسك ألسنتنا عن كل شيء إلا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذم جميع هؤلاء، فمن عجز عن ذلك، فهو معذور، فلو اجتمع كل من ينكر بقلبه لما غلبونا، أي النصارى، فأما الفرد الذي لا يسع أحدا، فإنه لا يعين ظالما بيده ولا بلسانه، ولا أن يزين له فعله ويصوب شره، رحم الله ابن حزم.

يقول: إذا لم يستطع الواجب، أولا: ألا نتكلم إلا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله، ومن عجز عن ذلك وبذل جهده، فهو معذور، ولكن الشيء الذي لا يعذر فيه أحد أن يساعد أحد من طلاب العلم الظالم على ظلمه، وأن يزين له هذا الأمر وأن يقره على هذا العمل لا عذر له في ذلك، ما هو عذره أمام الله - سبحانه وتعالى - وهو يحكي عن واقعه - رحمه الله - ولهذا يقول: لما وجد من يزين لأهل المنكر منكرهم، ويبرر لهم تصرفاتهم حل بالأندلس ما حل بها.

هنا نتهي من هذا السبب، أو من هذه العبرة.

أثر الجهاد في حياة الأمة  :

ونقف مع درس آخر وهو أثر الجهاد في حياة الأمة.

الأمة بدون الجهاد لا خير فيها، الأمة بدون الجهاد لا حياة فيها ، الله - سبحانه وتعالى - يقول: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) ويقول جل وعلا: (انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) ويقول سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) وفى السنن قال " إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله " وسنده حسن.

وقال " رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد " وهو حديث صحيح، وقال " لغدوة في سبيل الله، أو روحة خير من الدنيا وما فيها \" متفق عليه، ونعى الله - سبحانه وتعالى - على القاعدين فقال: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) الجهاد هنا مما أخذنا من دروس الأندلس: لما وجد الجهاد بقيت الأمة.
لما دخل طارق وموسى، وجاء عبد الرحمن الداخل وعبد الرحمن الناصر بقيت الأمة، لما قام بعض ملوك الطوائف بالجهاد بقيت الأمة، كوقعة الزلاقة والأرك وغيرها، ولكن عندما تهاون المسلمون وتخاذلوا حل بالمسلمين وبالمؤمنين الكارثة، وهنا لي وقفة.
 لا حياة للأمة إلا بالجهاد، وها نحن نرى جهاد إخواننا، أو جهاد المسلمين في أفغانستان، جهادا أعاد للأمة عزها وبأسها وقوتها، قبل أن آتيكم بدقائق - أيها الأحباب - كنت أستمع إلى أحد الإخوة، الذين جاءوا من المعارك من هناك من أفغانستان. يذكر لنا قصص البطولة والشجاعة والفداء، وكأننا نقرأ في تاريخ سلفنا الصالح. معارك وقعت منذ أيام فيها الشجاعة والإباء والقوة، نفوس أو رجال اعتلت نفوسهم على شهوات الدنيا وعلى مطامعها.

الله الله - أيها الإخوة - في الحفاظ على هذا الجهاد! هناك مؤامرة كبرى تحاك لهذا الجهاد، وهو جهاد المسلمين في أفغانستان، الله الله أن يسقط الجهاد أمام أعيننا ونحن نتفرج عليه! أعداؤنا يكيدون لنا، أعداؤنا يتآمرون، كادوا للمسلمين في فلسطين فأسقطوها، ماذا حدث في فلسطين؟ مأساة. ماذا حدث في الأندلس؟ مأساة. ماذا يحدث في أفغانستان الآن؟ أقول: هناك مؤامرة كبرى. بعضها ينفذ بأيدي بعض المسلمين، أولئك الذين يثيرون الفتنة، أولئك الذين يثيرون الخلافات، أولئك الذين يثيرون القلاقل والفتن بين المجاهدين لمصلحة من؟ أولئك الذين قسموا المجاهدين إلى شيع وأحزاب لمصلحة من؟ أولئك الذين يتكلمون عن مثالب المجاهدين يخدمون من؟ نحن قد لا نشك في نيات بعضهم وفى إخلاص بعضهم، ولكن الإخلاص وحده - والله - لا يكفي، إنني أوجه نصحي لكم، أنصح نفسي وأنصحكم، وأقول لكم: انصحوا هؤلاء الذين يريدون أن يتلاعبوا في الجهاد من أبناء المسلمين، بل من المدعين الغيرة على الجهاد.

أعداؤنا عندما عجزوا عن الفتك بهذا الجهاد، حاولوا بطرق أخرى للفتك به وأخزاهم، قد نجحوا في بعض محاولاتهم، حافظوا على هذا الجهاد أيها الأحبة، وهذا فيه عزنا، وفيه نصرنا، وفيه قوتنا، لقد رفعنا رؤوسنا بعد أن طؤطئت كثيرا بفضل الجهاد في سبيل الله، الجهاد في سبيل الله، فيه العزة، وفيه القوة، وفيه الرحمة، وفيه الخير.


 لعل هذا يكفي دليلا وعبرة من دروس الأندلس، إذا لم يوجد الجهاد فعلى الأمة السلام. هذا ما أقوله هنا، وأواصل بعد قليل هذه الدروس إن شاء الله.

مواقف شجاعة تسجل في التاريخ  :

نواصل - أيها الأحباب - مع الدروس والعبر، هناك مواقف شجاعة تسجل في التاريخ، لما أراد ابن الأحمر أن يسلم غرناطة، وزين له أصحابه وحاشيته أنه لن يستطيع أن يبقى في مقاومة النصارى، جاء أحد المقربين وأحد رجاله وقال له - وهو يسمى موسى بن أبي غسان - وقال له: لا تسلموا غرناطة، دعونا نجاهد في سبيل الله، دعونا نقاتل في سبيل الله، ولكن صيحته ذهبت سدى، وقال له، قال لابن الأحمر رجاله.. قال رجال ابن الأحمر: إن النصارى عرضوا علينا معاهدة، فيها حفظ لكيان المسلمين، ولن يؤت المسلمون بأذى ولا بشر. فهيا نسلم الأندلس، حتى نحافظ على ما بقي لنا بالعهود والشروط، فقال لهم هذا الرجل: إياكم أن تركنوا إلى النصارى، إياكم أن تثقوا في النصارى، لكنهم رفضوا أن يستمعوا إليه، استمعوا إلى ماذا؟

قال لما أعيته الحيلة: لا تخدعوا أنفسكم، ولا تظنوا أن النصارى سيوفون بعهدهم، ولا تركنوا إلى شهامة ملكهم، إن الموت أقل ما نخشى، فأمامنا نهب مدننا"  هو يذكر لهم ما حدث بالأندلس في مدن الأندلس" قال الشاعر، معبرا عن هذه القصة المعبرة على لسان موسى بن أبي غسان أما أنا قال :

فرضت وأخضع للعـدا أنا لـن أقـر وثيقــة
وخفت أسباب الــردى ما كان عذري إن جبنت
أطال أم قصـر المـدى والموت حق في الرقاب
بيـدي ولــن أتـرددا إنى رسـمت نهايتــي
واليوم للوطـن الفــدا كـنـت الحسـام لأمتي
دًا بل ســأقضي سـيدا أنا لن أعيش العمر عبـر

عودة لصفحة دروس وعِبر

عودة لصفحة الفردوس المفقود