في اليوم التالي وفي الثامنة مساء

وقفت مرتبكاً للحظات أمام الباب المغلق... ثم نزلت عدة درجات من السلم وأخرجت علبة سجائري وأشعلت سيجارة ... وعندئذ سمعت وقع خطوات نسائية بمدخل السلم فانتظرت متردداً... وعندما رأيت الفتاة القادمة كدت أسقط على الأرض.

كانت هي بنفسها الفتاة التي واقعتها في شقة "لابي" لكن ابتسامتها حين رأتني مسحت عني مظاهر القلق وهي تقول:

Ø     بونجورنو

فرددت تحيتها بينما كانت تسحبني لأصعد درجات السلم ولا زالت ابتسامتها تغطي وجهها وقالت في دلال الأنثى المحبب:

Ø     أنا لم أخبر سنيور لابي بما حدث منك ..

قلت في ثقة الرجل:

Ø     ماذا؟ ألم تهدديني بالانتحار من النافذة؟

بهمس كأنه النسيم يشدو:

Ø     أيها الفرعوني الشرس أذهلتني جرأتك ولم تترك لي عقلاً لأفكر .. حتى أنني كنت أحلم بعدها بـ "أونالترا فولتا"، لكنك هربت!!

قلت لها:

Ø     يا ليتني فهمت ذلك.

وانفتح الباب وهي تقول:

Ø     هل ترفض دعوتي على فنجان من القهوة الإيطالية؟

ووجدت نفسي في صالة القنصلية الإسرائيلية والفتاة لا زالت تسحبني وتفتح باب حجرة داخلية لأجد "لابي" فجأة أمامي. قام ليستقبلني بعاصفة من الهتاف:

Ø     ميو أميتشو ... ماريو ... أهلاً بك في مكتبك.

وهللت الفتاة قائلة:

Ø     تصور ... تصور سنيور لابي أنه لم يسألني عن اسمي؟

قهقه لابي واهتز كرشه المترهل وهو يقول بصوت جهوري:

Ø     شكرية ...شكرية بالمصري سنيور ماريو تعني: جراتسيللا.

واستمر في قهقهته العالية وصرخت الفتاة باندهاش:

Ø     أيكون لاسمي معنى بالعربية؟ اشرحه لي من فضلك سنيور ماريو.

وكانت تضحك في رقة وهي تردد:

Ø     شوك ... ريا ... شوك ... ريا . جراتسيللا شوك .. ريا.

ولم يتركني لابي أقف هكذا مندهشاً فقال للفتاة:

Ø     أسرعي بفنجانين من الـ "كافي" أيتها الكافيتييرا جراتسيللا.

واستعرض لابي في الحديث عن ذكرياته بالإسكندرية قبل أن يغادرها إلى روما في منتصف الخمسينيات... وأفاض في مدح جمالها وشوارعها ومنتزهاتها... ثم تهدج صوته شجناً وهو يتذكر مراتع صباه وطال حديثنا وامتد لأكثر من ساعتين بينما كانت سكرتيرته الساحرة جراتسيللا لا تكف عن المزاح معي وهي تردد:

Ø     شوك ... ريا .. سنيوريتا شوك ... ريا ...

وعندما سألتني أين أقيم فذكرت لها اسم الفندق الذي أنزل به... فقالت وكأنها لا تسكن ميلانو:

Ø     لم أسمع عن هذا الفندق من قبل.

رد لابي قائلاً:

Ø     إنه فندق قديم غير معروف في الحي التاسع "الشعبي".

قالت في تأفف:

Ø     أوه ... كيف تقيم في فندق كهذا؟

قال لابي موجهاً كلامه إليها:

Ø     خذيه إلى فندق "ريتزو" وانتظراني هناك بعد ساعتين من الآن.

وربت لابي على كتفي في ود وهو يؤكد لي أنه يحتاجني لأمر هام جداً لن أندم عليه وسأربح من ورائه الكثير.

وركبت السيارة إلى جوار جراتسيللا فانطلقت تغني أغنية "بالوردو بيلفا" أي "أيها الوحش الضاري" وفجأة توقفت عن الغناء وسألتني:

Ø     هل تكسب كثيراً من تجارتك يا ماريو؟

قلت لها:

Ø     بالطبع أكسب ... وإلا ... ما كنت أعدت الكرة بعد ذلك مرات كثيرة...

Ø     كم تكسب شهرياً على وجه التقريب؟

Ø     حوالي ستمائة دولار.

قالت في صوت مشوب بالحسرة:

Ø     وهل هذا المبلغ يكفي لأن تعيش؟ إن لابي يشفق لحالك كثيراً سنيور ماريو.

Ø     سنيور لابي صديقي منذ سنوات طويلة .. وأنا أقدر له ذلك.

Ø     إنه دائماً يحدثني عن الإسكندرية .. له هناك تراث ضخم من الذكريات ...!!

وفي فندق ريتز .. صعدنا إلى الطابق الثاني حيث حجزت لي جراتسيللا جناحاً رائعاً وبينما أرتب بعض أوراقي فوجئت بها تقف أمامي في دلال وبإصبعها تشير لي قائلة:

Ø     "أونالترا فولتا" أيها المصري وهذه المرة "للإيطاليا نيتا" ... "محبة الوطن الإيطالي".

وغرست أظافرها بجسدي بينما كنت أرتشف عبير أنوثتها وأتذوق طعمها الساحر وكانت لا تكف عن الهتاف:

Ø     ليوباردو ...ليوباردو .. ماريو إيجتسيانو .

وعندما جاء لابي كان من الواضح أننا كنا في معركة شعواء انتهينا منها تواً.. أخرج من جيبه مظروفاً به خمسمائة دولار وقال لي إنه سيمر علي صباح الغد...

وأوصاني أن أنام مبكراً لكي أكون نقي الذهن. وانصرفا بينما تملكتني الأفكار حيرى... ، ترى ماذا يريد مني؟ وما دخلي أنا فيما يريده لابي؟؟

وفي العاشرة والنصف صباحاً جاء ومعه شخص آخر يتحدث العربية كأهلها اسمه " إبراهيم " ... قال عنه لابي إنه خبير إسرائيلي يعمل في شعبة مكافحة الشيوعية في البلاد العربية.

رحب إبراهيم بماريو وقال له بلغة جادة مفعمة بالثقة:

Ø     إسرائيل لا تريد منك شيئاً قد يضرك ...فنحن ناحرب الشيوعية ولسنا نريدك أن تخون وطنك... مطلقاً... نحن لا نفكر في هذ الأمر البتة. وكل المطلوب منك.. أن تمدنا بمعلومات قد تفيدنا عن نشاط الشيوعيين في مصر وانتشار الشيوعية وخطرها على المنطقة.

وأردف ضابط المخابرات الإسرائيلي:

Ø     كل ذلك لقاء 500 دولار شهرياً لك.

وعندما أوضحت له أنني لا أفهم شيئاً عن الشيوعية أو الاشتراكية. وأنني أريد فقط أن أعيش في سلام. ذكرني لابي بأحوالي السيئة بالإسكندرية والتي أدت إلى تشتتي هكذا بعدما كنت ذا سمعة حسنة في السوق. واعتقدت أنني يجب ألا أرفض هذا العرض... فهي فرصة عظيمة يجب استغلالها في وسط هذا الخضم المتلاطم من الفوضى التي لازمتني منذ أمد .. وتهدد استقرار حياتي.