ذاق أخيراً طعم المال والثراء، وكان على استعداد لأن يحارب الدنيا كلها كي لا ينقطع تدفق المال بين يديه. لذلك، أصيب بتوتر شديد لما انقطعت لقاءاته بزياد ثلاث مرات متتاليات. لقد كان قد أوصاه ألا يتأخر أبداً عن الموعد المتفق عليه، حتى ولو لم يجئه، ومهما طالت مدة غيابه... وهذه المرة انقضت ستة أسابيع ولم يجيء صديقه الإسرائيلي، وتساءل نايف في قلق:

Ø     ترى هل يجيء ثانية.. ؟

كان يحترق خوفاً من ألا يجيء... ويزداد ضجره لأنه لا يعرف ما حدث بالضبط .. ووصل به ظنه الى الفدائيين... فهم بلا شك أهم أسباب حرمانه من فرصة التجارة المربحة.. ذلك أن عملياتهم الفدائية كانت أخبارها على الألسنة في كل مكان... وود عندئذ أن يفكوا عن عملياتهم... بل إنه تمنى في داخله أن يرحلوا بعيداً عن أرض لبنان.

تعلق بصره باتجاه الحدود يحدوه الأمل في مجيئه، وأخفى دراجته بين الأعشاب، واستلقى بجانبها كما أمره زياد من قبل خوفاً من شكوك "الإرهابيين" ... وعلى حين فجأة، تهللت أساريره من جديد عندما لاح الشبح قادماً، وبدا الوافد قلوقاً متعباً.

وفي سرد طويل، شرح لرفيقه معاناته في المرور ببضاعته، ومدى حرصه على ألا يتأخر، إلا أن العمليات الإرهابية كانت السبب في إعاقته... وتكثيف نقاط المراقبة... وسأله: كيف يتحركون في الجنوب؟ كيف يرصدون الحدود؟ أسئلة كثيرة في تلقائية أجاب عنها نايف بما يعرفه. ووصف لزياد أساليب معيشتهم وأماكن تواجدهم وتجمعاتهم، حتى الممرات ومدقات الجبال التي يسلكونها رسمها على الورق، بل إنه حدد كروكياً مواقع الحفر التي يتخذونها مراكز مراقبة طيلة النهار. ثم ينطلقون ليلاً في أواخر الأشهر العربية، مستغلين الظلام الدامس أو غبش الفجر في قص الأسلاك والتسلل الى إسرائيل.

حدثه أيضاً عن كيفية استقطاب الأشبال وتجنيدهم، وتدريبهم عسكرياً على استخدام المدافع الرشاشة والقنابل في معسكرات مغلقة بالبقاع. وسأله زياد عن المصادر التي استقى منها معلوماته، فأجاب بأنه عرفها من خلال بعض شباب الجنوب الذين انخرطوا في صفوفهم، تحت إغراء الحافز المالي وشعارات الجهاد.

أخرج زياد حافظة نقوده وسلمه ألف دولار ... وهو مبلغ خيالي في ذاك الوقت... وقال له بأنه سينقل كل هذه المعلومات الى الإسرائيليين كي يثقوا به، فيتركوه ليمر ببضاعته في أي وقت فتزيد أرباحهما معاً.

ولما سأله نايف:

Ø     ولماذا تمنحني هذا المبلغ الكبير؟

Ø     أجاب:  يا عزيزي، ما قلته لي يساوي أكثر.

Ø     قطب جبينه في دهشة أكثر وتساءل في سذاجة: لست أفهم.

في لؤم شديد مغلف بالإغراء أجابه:

Ø     ما دفعته لك سأسترده ... إنهم في إسرائيل يشترون أقل معلومة بأعلى سعر... فالمعلومة التافهة في اعتقادك قد تنقذ أرواحاً في إسرائيل .. ألا تحب إسرائيل؟

Ø     -   (!!! ... . )

ومتقمصاً دور العربي الوطني:

Ø     أنا عربي مثلك كنت أكره إسرائيل في صغري، الآن كبرت، وفهمت لماذا يكره العرب إسرائيل، هم مخطئون لأنهم ينقادون وراء حكامهم، والحكام مستبدون، طغاة، يُسيّرون شعوبهم تبعاً لمشيئتهم. أما في إسرائيل فالديموقراطية هي التي تحكم، الشعب يحكم نفسه، ويملك قراره ومصيره.

Ø     -   (!!! ... . )

وهو لا يزال ينفث سمومه:

Ø     في إسرائيل حرية لا يعرفها العرب. حرية في أن تعارض، تجادل، تعمل، تحب، تمارس حياتك كما أردت أنت. أنا مثلاً، أعمل موظفاً ببلدية "نهارية" قرب الحدود. اشتري بضائعي من "عكا" وأبيعها معك في لبنان، إنني أسعى لزيادة دخلي، والحرية عندنا لا تمنعني أن أعيش ميسوراً، ألا تريد أن تعيش ميسوراً؟

Ø     نعم.

Ø     إذن، فلنتعاون معاً على العمل بإخلاص.. وساعدني كي أجيئك بالسلع كل يوم وليس كل أسبوعين.

Ø     وماذا بيدي لأساعدك؟

Ø     بيدك الكثير لتكسب آلاف الليرات، وبسهولة. أنسيت فاطمة وإهانة أبوها عدنان؟

وقد بدأ نايف يستجيب لسمومه:

Ø     إني طوع أمرك، أريد مالاً كثيراً مقابل أي شيء تطلبه.

Ø     هؤلاء السفلة "يقصد الفدائيين" يُضيقون علينا، ويُعكرون "أمننا"، نريد منعهم.

Ø     كيف ؟

Ø     سأجعلهم يخصصون لك راتباً شهرياً، ألفي ليرة... عليك فقط أن تحصي عليهم أنفاسهم، وتعرف بتحركاتهم قبل أن يعبروا الحدود ... "نريد الخطط، والمواعيد، والأعداد، نريد كل التفاصيل" !!.

نايف في إسرائيل

حاصره زياد ضابط المخابرات الماكر، ولعب على أوتار فقره وأحلامه في الثراء. مستغلاً ضعف ثقافته وعروبته، وكبله بخيوط الخيانة دون أن يقاوم، وما غادر موضع اللقاء إلا وقد انضم لطابور الخونة العرب جاسوس جديد لإسرائيل.

وذات مرة ... انتهز عميل الموساد الفرصة... ورسم صورة زاهية لحياة نايف... إذا تعاون معه بإخلاص دون أن يتعرض لمشاكل مع الفلسطينيين، ولكي يكون أكثر كفاءة ومهارة في عمليه الجديد، كانع ليه أن يخضع لتدريب فني متخصص، وهذا لن يتأتى له في الجبل ... حيث المخاطر من كل جانب.. وكان أن دعاه لاجتياز الحدود معه ليمكث بإسرائيل عدة أيام حيث سيسرهم هناك أن يروه.

لم يكن الأمر من البساطة بحيث يستوعبه نايف بسهولة... إذ أن أعصابه ارتجفت بشدة وهو ينصت لزياد .. وغامت الرؤى في ناظريه رعباً عندما تخيل نفسه أحد رجال الموساد في الجنوب. كان الحدث بلا شك أكبر بكثير من حجم مداركه البسيطة وأحلامه الواسعة... لكن جحيم معاناته النفسية كان كزلزال عاتٍ يخلخل جذوره، ويقتلع شعيرات مقاومته التي بدت هشة ضعيفة واهنة، أمام دفقات الخوف والأحلام معاً.

بفكر ضابط متخصص واعٍ .. كان زياد يتفرس صراعات فريسته، ويراقب عن كثب مراحل الترنح التي تسبق السقوط، وبانقضاض محموم أشل إرادته وسيطر على عقله... فالمال له بريق ساحر كالذهب، يذيب العقول فلا تقوى على مقاومته... وابن الجنوب كان ضحية الفقر والعجز والمعاناة... لذلك فما أسهل احتواءه وتصيده بواسطة أصغر متدرب في أجهزة المخابرات.

لقد كانت طقوس سقوطه بسيطة جداً وسهلة... إذ اشترط نايف لكي يتعاون معهم ألا يفضحوه يوماً ما .. ويعلنوا عن اسمه في سجل الخونة. وكان له شرط آخر يتعلق بالمال، وهو ألا يبخسوا عليه حقه. (!!).

أجيب الى طلبه بالطبع، فقد أخذ شكل الحوار يتغير من حوارات تجارية، الى مساومات وطلبات مكشوفة تتعلق بالتعاون مع الإسرائيليين. ووجدها نايف فرصة ثمينة لا تعوض في الحصول على المال، مقابل معلومات تافهة لا يعرفها الإسرائيليون، لكنهم كانوا في واقع الأمر يعيشون الرعب كل العرب، بسبب تلك العمليات الناجحة في قلب مستوطناتهم الشمالية.

اقتنع نايف بأن أمنه الشخصي مرهون بمدى مهارته وحرفيته... وآمن بأن التدريب ضرورة ملحة للحفاظ على حياته.. لذلك لم يتوان عن الإسراع بطلب الحصول على إجازة من عمله، وانطلق بدراجته الى نقطة حددت له في الجنوب، وبقي مختبئاً بين الأعشاب ينتظر ستائر الظلام، الى أن لمحا لوميض المتقطع المتفق عليه، فرد بإشارات متقطعة أيضاً، وهو يتعجب من الارتجافة الهلوعة التي اجتاحت أعماقه.

مشى باتجاه الوميض البعيد يجاهد للتغلب على اضطرابه، لكن الليل الحالك وصفير الرياح ورهبة الصمت ضاعف من توتره، وكان رعبه الأكبر من هؤلاء الثعالب المختفين بين الحفر والأعشاب، ينتظرون إشارة الزحف باتجاه الحدود، حاملين رشاشاتهم وأرواحهم بين أيديهم.

فرق كبير بين خائن يسعى للثراء، وثعلب منهم زهد الحياة والمتع وجعل من دمه وعظامه ناراً تؤجج شعلة الجهاد.

وفي غبش الظلام فاجأه شبح ألقى بقلبه الرعب...وكادت أنفاسه أن تتوقف قبلما يناديه:

Ø     اتبعني...

قاده الشبح المجهول الى الأسلاك والعيون المرتقبة، وكان يتعثر من فيضانات الخوف المهلكة، الدافقة... ومرت به لحظات ذاق طعم مرارتها بفمه، تمنى وقتها لو أنه عاد ثانية الى بيته، بلا أحلام، أو مطامع، لحظتها فقط اجتاحه إحساس مقيت بالغثيان، لكن الوقت كان قد فات... وما عادت أمنيات التراجع تجدي.

انطلقت به كالسهم السيارة العسكرية الى حيث لا يدري ... كان يجلس بالخلف وسط أربعة جنود، نظراتهم الحادة المتفحصة كانت تخيفه وتربكه، إنهم بلا شك – وهم يتحدثون بالعبرية – يتندرون على ضيفهم الذي بلا انتماء، الذي جاء متسللاً لينزف عروبته ويبيع وطنه... وزياد الجالس بجوار السائق لم يكن يكف عن الضحك..

يا للمفارقات العجيبة ... (!!).

كانت النقاط الأمنية منتشرة هنا وهناك طوال الطريق ... ورأى رجال الأمن يفتشون السياراة المارة، إلا سيارته. فقد كان زياد يومئ لهم فقط فيفسحون الطريق في الحال.

Ø     أهلاً بك في حيفا...

هكذا قابلته الفتاة الحسناء عندما فتحت باب المنزل، وتركه زياد معها ومضى دون أن يتكلم معه في شيء.