ميدان "العلاوي" في بغداد يعتبر من الميادين الكبيرة .. المزدحمة... تقع بأحد جوانبه محطة الأتوبيس الدولي عمان / بغداد، حيث تصطف عدة مقاه فسيحة، يملك إحداها يهودي عراقي، جذب إليها الكثيرين من اليهود الذين اعتادوا التلاقي بها، فكانوا يشكلون أغلب روادها، ولذلك سميت مقهى "اليهود".
وفي أحد أيام مارس 1950، وفد إلى المقهى "زبون" غامض، كان يجلس بالساعات يشرب الشاي ويقرأ الصحف، واضعاً حقيبته الجلدية السمراء أسفل المائدة، متعمداً ألا يحادث أحداً أو يترك فرصة سانحة لذلك.
كان سخياً جداً مع الجرسون، كثير الاستئذان للخروج تاركاً حقيبته ليجري مكالمة هاتفية، سرعان ما يعود بعدها إلى مكانه صامتاً.. تغطي نظارته السوداء التي حرص ألا يخلعها ملامحه.
وذات مرة، ترك حقبيته وصحيفته وخرج .. وبعد دقائق، دوى انفجار شديد دمر المقهى عن آخره، أسفر عن مقتل سبعة عشر يهودياً وأصيب ضعفهم أو يزيد.
الحادث المجهول ألقى الرعب في قلوب اليهود، خاصة والشرطة عجزت عن القبض على الفاعل، أو الاستدلال على شخصيته، إلا أنه لم تكد تمر عدة أيام، حتى انفجرت قنبلة أخرى في المعبد اليهودي المعروف باسم "ماسودا شيمتوف".. أدت إلى مقتل طفل يهودي دون العاشرة، كان يلهو بالردهة الداخلية التي انفجرت بها القنبلة.
أسرع الموجودون بالمعبد بالفرار يحفهم الرعب، وأصيب العديد منهم أثناء الهرب، وللمرة الثانية، وقفت الشرطة عاجزة عن فك اللغز المحير.
وفي ذات الوقت الذي انطلقت فيه أبواق الدعاية الصهيونية، تصور الحادث على أنه مذبحة مدبرة من العراقيين ضد اليهود، توالت الانفجارات لترويع الآمنين، وكان لفشل رجال الأمن في إيقافها أو القبض على الجناة، عامل مساعد لتأكيد الإشاعات التي ملأت أرجاء العراق؛ وتناقلها اليهود في دهشة وهلع.
وبعد عام من الحادث الأول، كان "باسم الصايغ" يمشي بأحد شوارع بغداد عند الظهيرة... يحمل أطناناً من المعاناة والهموم، فهو شاب فلسطيني أجبر على الفرار من فلسطين، هرباً من مذابح العصابات الارهابية التي نكلت بأفراد أسرته.
وبينما هو يمشي فوجئ بما لم يتوقعه أبداً، إذ شاهد ضابط مخابرات إسرائيلي ينتظر أمام فاترينة أحد المحلات. تمالك الشاب الفلسطيني نفسه وظل يراقبه عن بعد، وبحذر شديد اقتفى خطواته إلى أن رآه يدلف إلى مقهى، ويجلس بركن قصي.
كان باسم يثق تماماً في ذاكرته، فهذا الضابط كان أحد أفراد فرقة "الهاجاناه" الإرهابية التي قتلت عمه وابن عمه أمام عينيه، فصورته المتوحشة لم تغب أبداً عن مخيلته، وللحظة ... فكر باقتحام المقهى وقتله ثأراً، لكن حسه الوطني منعه، فالإسرائيلي ما جاء إلى بغداد حتماً إلا لمهمة سرية.
ومن أقرب تليفون، اتصل "باسم" بالشرطة التي جاءت على الفور وألقت القبض على الضابط الإسرائيلي.
ضد التعذيب ... ! !
أخضع الضابط الإسرائيلي لتحقيقات أمنية مطولة، لم تسفر عن شيء في البداية، برغم مواجهته بهويته السورية المزيفة، حيث لم ينهار أو يعترف، فأعيد استجوابه بأسلوب "التعامل" مع المجرمين، إذ جرد من ثيابه، وأودع حجرة ضيقة جداً، سلطت عليه فيها لمبات كهربائية شديدة الوهج، كفيلة بأن تجز مقاومته... لكنه ظل يقاوم.
لقد دربوه في أكاديمية الجواسيس في الموساد على تحمل شتى أنواع التعذيب البدني والنفسي، بما فيه الجوع والعطش، والحرمان من النوم لفترات طويلة ، فكان برغم قسوة "التعامل" معه، يبدو في كامل صلابته وإرادته.
لكن ضابطاً عراقياً خبيراً – كان قد جاء لتوه من موسكو وقد تدرب جيداً على كيفية استجواب الخونة – أمسك بالكماشة ونزع ظُفر إصبعه الوسطى، فاندهش أمام ذلك الخنزير الذي لا يحس بالألم. وتساءل الضابط العراقي في نفسه: ألهذا الحد دربوه في إسرائيل؟ أظافر يده اليسرى بكاملها انتزعت، ولا يزال مصراً على أنه سوري من "السويداء" في الجنوب. وعندما غمس الضابط العراقي يده في الماء المملح، لم يتحمل الإسرائيلي صاعقة الألم التي نهشت بدنه، فصرخ وهو يتلوى، ويصيح في ذعر بأنه ضابط مخابرات إسرائيلي، جاء إلى العراق بأوراق مزورة للاتصال بأحد العملاء اليهود.
وبالقبض على العميل العراقي "يعقوب الكالب" بمنزله القريب من ساحة الوثبة بحي الرصافة، لم يستغرق التحقيق معه وقتاً طويلاً، إذ انهار حين مواجهته بالضابط الإسرائيلي، واعترف في الحال على أعوانه الأربعة في شبكة الجاسوسية، التي قامت بعمليات التفجير المروعة في بغداد وأدلى "الكالب" بتفاصيل مذهلة عن نوايا الموساد، والمخططات المرسومة لترويع اليهود لدفعهم إلى الهجرة. كما أرشد عن مخابئ الأسلحة والذخيرة والمفرقعات بداخل المعابد اليهودية نفسها، وببعض المخازن على أطراف بغداد.
وأثناء محاكمة الجواسيس الستة بتهمة التجسس لصالح إسرائيل، تبارت الصحف العراقية ووكالات الأنباء العالمية في نشر أخبار المحاكمة أولاً بأول، إلا أن إسرائيل خرجت كعادتها تنفي علاقتها بتفجيرات بغداد، أو بشبكة الجاسوسية، بل وادعت بأن "الضابط" الإسرائيلي لا صفة له بالمخابرات، فهو ينتمي لمنظمة متطرفة محظور نشاطها، واستمرت أبواق الدعاية الصهيونية تؤكد بأن السلطات العراقية تزج باسم إسرائيل في مشاكلها الداخلية، دون الاستناد إلى حقائق أو أدلة. وأصرت إسرائيل – لتضمن عطف اليهود – على موقفها حتى بعد ما أدين الستة وحكم عليهم جميعاً بالإعدام.
هكذا .. سقطت أولى خلايا المنظمة السرية الصهيونية في العراق، التي تحركها الموساد، وتؤيدها سياسة إسرائيل، واستفادت المخابرات الاسرائيلية كثيراً من أخطاء شبكة "الكالب" التي أدت إلى سقوطها، وأعد خبراؤها تقارير حوت ملفات عديدة عن كيفية التعامل مع العراقيين، وتلافي سقوط شبكات مستقبلية في قبضتهم.
لقد كان هناك صراع مرير، شرس، صراع عقول ونظريات وسياسيات، أو لنقل إنه صراع "أدمغة" يحمل الشر ونقيضه، يبدأ في تل أبيب، وينتهي في بغداد.
فهل وقفت الأدمغة في إسرائيل موقف المتفرج السلبي؟
لا، فهي أعادت تنظيم خططها، وهاجمت من جديد.
وفي بغداد ...كانت "الأدمغة" أيضاً تتوقع كل شيء .. وتعمل. لذا، اشتد الصراع، وحمى وطيسه بين الحاجبين.
فتعالوا إلى ساحة المعركة، لنشهد معاً وقائع التراشق بالنظريات في عالم المخابرات والجاسوسية، تحسمها أسلحة الذكاء... !!