معك قريدس

  للكاتب والصحفي  الأستاذ سمير عطا الله 

ربما رويتها من قبل: في الستينات كان الوسط التجاري في بيروت يسمى في اكثره «منطقة البرج» حيث تقوم المقاهي والملاهي ودور السينما والفنادق، وينتشر باعة الصحف وتتفرع خطوط الحافلة الكهربائية، او «الترام». وكان «البرج» عالماً قائماً بنفسه مثل برج بابل: الفلاحون القادمون من القرى، اصحاب المعاملات الرسمية، والموسرون، والباحثون عن الثياب او الجواهر او السجائر، او عن السلوى.

وفي ذلك العالم المتنوع والمتعدد، كانت هناك شخصية غريبة تدعى «ابو فيليب». وكان لابي فيليب «كشك» صغير الى جانب سينما «راديو سيتي» يبيع فيه السندويشات.

وكان الرجل عاقلاً ومرتباً ومؤدباً، لكنه يجن جنوناً حقيقياً اذا سأله احدهم: «عندك قريدس» (روبيان).

وقد عرف بالامر اصحاب المزحات الثقيلة فكانوا يرونه منشغلاً في اعداد طعام او منهمكاً في ترتيب بضاعته، فيتقدم منه احدهم ويسأله «خواجا فيليب، عندك قريدس؟». فيرمي الخواجا فيليب كل شيء من يده ويحمل سكين مطبخ غليظة ويروح يطارد المازح الهارب.

كنا نذهب الى السينما كل عطلة اسبوعية. ونادراً ما مررت قرب «الراديو سيتي» ولم ار الخواجا فيليب يطارد طالب قريدس، وبعد مضي نحو 5 سنوات على عودتي الى الوطن الام، بدأ يساورني شك في ان اعراض الخواجا فيليب انتقلت اليّ. ليس بسبب القريدس، فلا مشكلة لي معه سوى مشكلة الكوليسترول.

ولكن كلما سمعت سائقاً يزمر لي يحكمني هبوب. ودائماً يُزمّر لي لانني توقفت عند ضوء احمر، او لانني تمهلت لافتح الطريق لرجل عجوز او شاب معاق، فيفقد الرجل الذي خلفي اعصابه من مشهد مواطن يحاول التقيد بالقانون او مراعاة المشاعر الانسانية.

ويروح يزمّر. فاترك المزمّر يمرّ امامي ثم اطارده ويدي على الزمور. واليد الاخرى على الضوء العالي الذي يفضله اللبنانيون معمياً لعينيك. ويعلو ضغطي. وارتجف. وألعن ساعة العودة الى غابة الزمامير وقلة الادب واخيراً استسلمت لواقع جديد، وهو انني اعاني من داء اسمه ابو فيليب او قريدس.

واصبحت اهنئ نفسي كلما خرجت من المنزل لمطاردة مضمونة. فكل شيء في بيروت قابل للاخذ والرد الا زعرنة السير. وحرب الزعران على الاعصاب. وهذا هو سلاحنا الكيماوي الفتاك الذي لم تطالبنا اميركا بتدميره.

وقبل ايام كنت اقود سيارتي في عاصمة الاشعاع والنور بكل ادب، فخرجت امامي سيدة فتمهلت لكي ادعها تمرّ، فعاجلني سائق سيارة خلفي بزمور. فمرت، فأزحت من طريق سعادته، ثم اراد سائق امامي ان يغير مساره، فتمهلت لكي اتركه يمارس هذا الحق الطبيعي. فعاجلني القرد الذي خلفي بمجموعة زمامير متواصلة. فأزحت وتركته يمر امامي. وقرأت على قفا سيارته انها تابعة «لاتحاد بلديات جبيل». اي بنت حكومة، «باللغا اللبنانيي». فأخذت أزمّر له وللبلديات وللاتحاد ولجبيل. وظن سائقو السيارات الاخرى انني ازمر لهم.

او انني مجرد مواطن يمارس هوايته المفضلة. ولكنني عزمت ان الحق بمندوب اتحاد بلديات جبيل الى ان اسمعه، «باللغا اللبنانيي»، كل ما خطر لي ان اقول. لكن في هذه الحال من السرعة والارتجاف ولعن الساعة، صدمت سيارة تقودها سيدة امامي.