للكاتب والصحافي الأستاذ سمير عطا الله
من كتابه ( ناس ومدن)
عدت إلى بيروت بعد تغيب دام أكثر من خمس سنوات. وقد طال الغياب حتى كادت لا تعرفني ولا أعرفها. أنا أحب الهدوء والعزلة، وهي تمعن في الضجيج والفوران وتناطح السحاب كأن لا حرب مرت من هنا ولا من يحاربون.
وإني أبدو هنا مضحكاً مثل مهاجر بريسبان في مسرحية جورج شحادة. مضحكاً وتائهاً لا أعرف شيئاً من الطرقات ولا شيئاً من جوانبها ولا شيئاً مما تقوله ألف إذاعة وألف قناة تلفزيونيّة وألف جمهوريّة تضمها هذه الجمهوريّة التي تتصرف وكأنها صانع سياسة الكون، أو كأنها نقطة الإرتكاز في سياسة العالم. وهو أمر مضحك أحياناً محيّر أحياناً أخرى.
كل شيء تغير إلا طبعاً اللبنانيين. أما لبنان فكم تغير. اللبنانيون لم يتغيروا. إنهم هنا فوق الطرقات المليئة بالحفر يجوقلون السيارات والسيارات تطير. أحياناً لمواجهة بعضها البعض وأحياناً من كل جهة نحو بعضها البعض. السيارات تطير. واللبنانيون يطيرون. ترحاً أو غضباً أو حماسة. وكل سهرة فيها مازة وتزكة وفيها كيلو الفجل بثلاثماية وخمسين ليرة، بدلاً من عشرة قروش. وفيها غورباتشوف وريغان وحديث عن الوفاق الدولي كأنك في قمة جنيف أو قمة البندقيّة. ولم يعد اللبناني يهتم بالمحليات إلا من حيث كونها شؤوناً دوليّة، والحديث الأساسي لدى الجميع هو ما يعرفه الساهرون ـ طالت أعمارهم جميعاً ـ عما يدور في خلد رجلين طائشين، واحد يدعى ريغان والآخر يدعى غورباتشوف.
وليس في الكون كله كثافة سياسيّة بقدر ما في البقعة المؤلفة من عشرة آلاف وأربع مائة كيلو متر مربع. لا في واشنطن ولا في باريس، حتى في الإنتخابات الرئاسيّة، ولا في لندن ولا في أي مكان. ينام اللبناني على سعر الدولار ويستفيق على بورصة الرئاسة وخلال النهار أو الليل يصنع سياسة ما في الجبل وسياسة أخرى في صيدا وسياسة أخرى في بيروت وسياسة أخرى من بيروت الأخرى. وسياسة أخرى في هذه البيروت التي لا يفصل بينها سوى خيط وهمي طويل، مثل هذا البحر الأزرق المترامي وسع العين والأفق والجمال. تتطلع في بيروت فلا تصدق.
وأنت السائح المحترم تعرف الآن بحكم الخبرة والدوران في ديار الله الواسعة بحثاً عن شيء مثل بيروت إن .... لا شيء مثل بيروت ! لا شيء. وقد بنى اللبنانيون خلال حرب السنوات الثلاث عشرة بيوتاً أجمل من بيروت الريفييرا وأكبر من بيوت كاليفورنيا وأكثر رخاماً من قصور لروكريس بورجيا. بنوا بيوتاً معلقة وبيوتاً على حافة الصخور وبيوتاً في الصخور وتركوا الخراب للخراب وحددوا ساحات القتال وساحات الصراخ وأبقوا الباقي لأنفسهم بيوتاً لا الريفييرا ولا سردينيا ولا بحيرة كومو ولا أعالي (سان بول) حفظ الله سكانها جميعاً.
مثل الحوذي في مهاجر بريسبان. أتلمس طريقي فلا أعرفها. ولبيروت القديمة السلام عليكم، ومع ذلك فهي تطير وإلى جانبها طبعاً البورش والمرسيدس 500 والـ ب.أم. مثل التراب، والنكتة تقول إن أحدهم إشترى حماراً من طراز ب.أم. ... من أجل التشفيط.
إنني آسف شديد الأسف، لكن تسمحون لي أيها السادة بهذه المشاعر. مشاعر السياح أو المغتربين على الأقل، إذ لولا بعض البساتين لما كانت لي علامات أتذكر بها الطريق. وطبعاً بائعي السمك الطازج على الطرقات، السمك المستورد من تركيا من عشرة أيام على أكثر تقدير، وبائعي الصعتر والسماق وأطباق الكعك والزعيق وهذه السيارات التي تتداخل في بعضها البعض مثل بائعي الرقيق الأبيض في روما القديمة.
من أين مرّت الحرب ؟
هناط طرق للحرب مررت بها. هناك دشم وراجمات وتعابير خاصة. تعابير مأخوذة من عالم الخنادق الذي يتضرع اللبنانيون كل لحظة ألا يعود. والشاب الذي أوصلني أمس أراد أن يقول لي أنه لم ينم، فقال باللغة الجديدة : طول الليل رأسي مش عم يفرز !.
ماذا ؟
ليست كل بيروت فرحاً ومباني مذهلة. وهناك ألف بيروت أخرى تحت هذا القناع وربما ألف فقر وألف لبناني كل واحد يعتبر أنه الجمهوريّة، يعيّن الرئيس المقبل ويرسم خطوط الوفاق الدولي ويطرح لك حول المائدة ألف مشروع حل ينقضها بألف مشروع آخر، وفي نهاية الأمر يفرك يديه قائلا : وأنتم هناك كيف ترون الأمور ؟.
نحن هناك يا عزيزي كنا نعتقد أننا نرى حتى جئنا إلى بيروت، فرأينا إننا لم نكن نرى شيئاً.
على الإطلاق .