من بكاء ... إلى بكاء !
من بكاء ... إلى بكاء !
للكاتب و الصحفي الكبير الراحل نبيل خوري من كتابه {المرافئ القديمة}
1998/4/11في إفتاحية مجلة المستقبل بتاريخ
خلال ثلاثة أيام فقط، هي أيام عيد الفطر، بلغت إيرادات فيلم عادل إمام {بخيت وعديلة} مليون جنيه مصري، وذلك في مدينة القاهرة وحدها.
الرقم القياسي في تاريخ السينما المصريّة ... والعربيّة.
صحيح أن عادل إمام هو نجم كبير، ونجم {شباك التذاكر} رقم واحد في مصر، ولكن هذا وحده لا يفسر هذا الإيراد الخيالي، خاصة في وقت تكاد فيه الأفلام المصريّة لا تغطي تكاليف الفيلم الخام الذي يصرف عليها.
السبب ببساطة : أن الناس في مصر، {وفي عالم العرب} تريد أن تضحك، وفي فيلم {بخيت وعديلة} الذي يعود فيه عادل إمام إلى الكوميديا بعد طول غياب، قدّم عادل إمام للناس ما يحنّون إليه : الضحك.
يكفي أن يتابع الناس في مصر، أو أي عاصمة عربيّة نشرات الأخبار التلفزيونيّة، حتى يصابوا بالإكتئاب، أو ما هو أشد وأدهى من الإكتئاب، قبل أن تنتهي النشرة.
ويكفي أن يطالعوا الصحف، وخاصة الأخبار والتصريحات الرسميّة حتى يصابا فجأة بالرغبة في البكاء، وأحياناً كثيرة ... الإنتحار.
وإذا خرج أي مواطن منهم من منزله هرباً من نشرات الأخبار، أو {للتمويه} بعد قراءة جريدة، فلن يستطيع العودة إلى المنزل {حتى لو أراد} قبل ساعات، لأنه إنْ لم يقع في حفرة حفرها مقاول ونسي ردمها، يعلق حتماً {بعجقة السير} التي أصبحت القاسم المشترك الأكبر في كل عواصم العرب ... تقريباً.
وإذا عاد إلى المنزل بعد ساعات العذاب ولجأ من جديد إلى جهاز التلفزيون، وتحاشى نشرات الأخبار، والمقابلات السياسية، واجهته سلسلة من البرامج التي تتميز {بثقل الدم} تصبح نشرات الأخبار بإزائها، رحمة ونعمة.
أما إذا كان محظوظاً ولديه {دش} أو إشتراك يلتقط المحطات الأجنبيّة، فإن مجرد المقارنة الذهنيّة بين ما يشاهده على شاشة هذه المحطات، وبين ما يشاهده على المحطات المحليّة، يبعث في أعماقه رغبة قديمة بالقفز ... من نافذة المنزل.
منذ نصف قرن تقريباً وهذه الأمة {العربيّة} لا تضحك، إنها تنتقل من بكاء ... إلى بكاء، وإذا صدف وإن ضحكت في يوم من الأيام، فلكي تدفع الثمن، وسريعاً، بمزيد من البكاء.
وبعيداً عن البكاء السياسي الذي لا حاجة لشرحه، هل هناك أمة في العالم الآن، وعلى مشارف القرن الواحد والعشرين، لا يزال ثلاثة أرباع أفرادها يعتبرون إدخال أطفالهم إلى المدرسة إنجازاً !! وعدم انقطاع الكهرباء عن منازلهم إعجازاً، وإيجاد ما يكفي لإطعام عائلاتهم أعجوبة !! وعدم حلولهم في سجون الأنظمة ولو مرة واحدة في حياتهم على الأقل ... حظاً باسماً من السماء !!!.
هل توجد أمة في القرن العشرين لا يزال مريضها لا يعرف الطريق إلى المستشفى، وفلاحها لا يستطيع أن يأكل من أرضها، ونصفها عاطل عن العمل، والهدف الأسمى والأنبل لأي مواطن فيها هو : الهجرة.
هل هناك أمة لا تعرف عناوين أبنائها في العالم، ولا يريد أحد من أبنائها في العالم أن يعود إليها، وإذا عاد إليها {مضطراً} فبجواز سفر أجنبي يلقيه أمام {مواطنه السابق} موظف الجوازات في أي مطار عربي، وكأنه إعلان براءة من هذه الأمة.
للأسف لا يوجد عندنا إلا عادل إمام واحد، مع أن كل مواطن فينا بحاجة إلى عادل إمام.
وفي السنوات الأخيرة كدنا نفقد حتى هذا الـ {عادل إمام} الوحيد، وذلك عندما قرر أن يتحول إلى مصلح سياسي عن طريق سلسلة من الأفلام والمسرحيات الهادفة، كان آخرها مسرحية {الزعيم} وفيلم {الإرهابي} الذي جاء بعد فيلم {الإرهاب والكباب} وكاد فيها يتحول إلى {وزير داخليّة} أو رئيس مباحث ومصلح إجتماعي.
فيلم {بخيت وعديلة} أعاد عادل إمام إلى ما يجب أن يكون عليه {ولا ينساه} أي الإنسان القادر على بعث، بل وإنتزاع البسمة من الشفاه المتشققة من كثرة العبوس ...
ألا يكفي أننا خسرنا دريد لحام !
.... إبتسم، أنت عربي