في مسألة المهنة

 

للكاتب والصحفي الكبير الراحل نبيل خوري من كتابه {آخر النهار}

نشر هذا المقال في صحيفة النهار بتاريخ 21/10/1995

في باريس كنت خارجاً لتوي من حضور الفيلم الجديد لكلينت إيستوود {الطريق إلى ماديسون}، اشتريت الصحف العربيّة من {الكشك} الذي تعودته، وتعودني من أكثر من عشرين سنة، وجلست أقرأها بمتعة المدمن الممنوع من التدخين، لأفاجأ بخبر بارز في إحداها يقول : انتهى الممثل كلينت إيستوود من تصوير فيلمه الجديد {الطريق إلى ماديسون} والذي سيعرض في الموسم المقبل في صالات العرض في العالم.

ضحكت. لا بد من أن المحرر الفني في الصحيفة العربيّة الكبرى{إنحشر} بخبر لـ {تسكير} الصفحة (كما نقول) فلجأ إلى خبر عمره ما يقارب السنة، فأرسله إلى المطبعة وهرع إلى موعد العشاء.

عرت المحرر، فقد كنت على موعد عشاء، قبل أربعين سنة، ولم أجد حتى خبراً قديماً لـ {تسكير} الصفحة، وجدت صورة فـ {فبركت} لها خبراً وذهبت إلى موعد العشاء.

الخبر {المفبرك} كان أيضاً خبراً فنياً، ولكن ذا {أبعاد سياسية}، كما حدث هذا العام 1955، وكنت أعمل في مجلة {الصيّاد} يوم كانت زهرة المجلات في لبنان، أيام عميدها وأستاذ الجميع المرحوم سعيد فريحة.

وإنحشرت كما أنحشر محرر خبر كلينت إيستوود، وفجأة رأيت أمامي صورة الممثل مارلون براندو، وبما أنني لم أكن محرراً فنياً، والصفحة التي أحررها سياسية، أمسكت بالصورة وأرسلتها إلى المطبعة مع عنوان يقول: {إمنعوا أفلام هذا الصهيوني}.

لم أعد أذكر تفاصيل الخبر الذي كتبت، وإن كان فحواه يقول إن براندو متبرع دائم للإسرائيل.

وذهبت إلى العشاء...

كانت المفاجأة أن مكتب مقاطعة إسرائيل في دمشق، صدّق الخبر، وما هي إلاّ أسابيع حتى صدر قرار يمنع أفلام مارلون براندو من دخول العالم العربي.

وعبثاً حاول ممثل الشركة التي توزع أفلام براندو رفع الحظر وإلغاء القرار، فقد كانت {الصيّاد} أصدق من كل الوثائق التي تقدّم بها.

للقصة بقية: إنتقاماً أو غضباً، بدأ مارلون براندو يتبرع بالفعل لإسرائيل، واستمر كذلك إلى أن حدث نوع من الإتفاق بين الشركة المنتجة لأفلامه، ومكتب المقاطعة على رفع أسمه عن القائمة السوداء، إذا توقف عن التبرع ... وهكذا كان.

حدث هذا قبل أربعين سنة، ماذا يحدث اليوم ؟

تابعت قراءة الصحف العربيّة في ذلك الليل الباريسي المبلل بالمطر.

لاحظت، أننا {أهل المهنة} كنا {نفبرك} الأخبار {أحياناً} قبل أربعين سنة، وكان الحكّام يصدقونها.

أما اليوم، فالحكّام {يفبركون} الأفكار والأحداث، ونحن نصدِّقها، وتالياً فنحن جميعاً نعيش في عملية تكاذب كبرى، والضحيّة ـ الوسيلة في آن واحد هي المهنة : الصحافة.

نصف رؤساء التحرير في العالم العربي، لا يصدقون ما تنشره صحفهم {على ألسنة الحكّام} والنصف الآخر يكذب على نفسه، ويدَّعي أنه يصدق.

نصف الذين يذهبون لإجراء مقابلات صحافية مع الحكّام يعرفون لفاً أن ثلاثة أرباع ما سيكتبونه على لسان الحكّام ليس حقيقياً، والنصف الآخر يكتب ما سيقوله الحاكم، قبل أن تتم المقابلة.

نصف الذين يكتبون في تأييد الحاكم منتفع، والنصف الآخر خائف.

نصف الصحافة يملكه الحاكم، والنصف الآخر متعاطف مع الحكّام، لأسباب ... إعلانيّة ـ إعلاميّة...

لم يعد الخيار هو الحرية المسؤولة، صار الخيار هو الحرية التي لا تعارض ولا تعترض. الرقيب في كل العواصم العربيّة صار من دون عمل، لأن الصحف ... تراقب نفسها.

لم يعد الحاكم مضطراً إلى سجن الصحافي لتأديبه، صار يكتفي بتجويعه. أبدل التعذيب بالترويض، لم يعد هناك {قضية} أو قضايا، صار هناك حلول.

الخلاف، لم يعد يفسد للود قضية لأنه لم يعد هناك خلاف أصلاً.

لا أحد يتحدث {أو يكتب} عن المضمون، الحديث والكتابة صارا في الشكل وعن الشكل.

{فنّ الممكن} لم يعد يقتصر على السياسة، امتد أيضاً إلى عالم السلطة الرابعة.

من بقي من الجيل الذي يرفض أن يوافق قبل أن يناقش ويقتنع والذي يستمر في قول {لا} في زمن الـ {نعم}، صار في طريقه إلى الإنقراض تماماً كالديناصورات.

وكما {زمان الوصل في الأندلس}، أنتهي زمان الخطف {فكلنا مخطوفون} وضرب الموسى {موضة قديمة} والإغتيال ... لأن له رائحة.

وبعد ذلك أنلوم المحرر الذي نشر خبراً بائتاً بريئاً عن كلينت إيستوود و{الطريق إلى ماديسون}؟

العوض بسلامتكم.