أقفاص الدجاج
للكاتب والصحفي الكبير رياض نجيب الريّس من كتابه {قبل أن تبهت الألوان}
كُتب هذا المقال في الكويت بتاريخ 21/12/1982
شاءت الصدف أن أكون في الكويت في كانون الأول 1982، في الوقت الذي كان فيه اتحاد الصحافيين العرب يعقد اجتماعاته الدورية، وكانت الأمانة العامة للاتحاد بكامل طاقمها المؤلف من نقباء الصحافة العربيّة من سوريا إلى الأردن ومن لبنان ومن فلسطين ومن العراق إلى أريتريا ومن الجزائر إلى تونس، ناهيك بالكويت واليمن وموريتانيا، تقيم الأوضاع العربيّة العامة وتصدر التوصيات اللازمة بشأنها بدءاً بالقضية الفلسطينيّة ومذابح صبرا وشاتيلا مروراً بالمشكلة الأريتريّة وانتهاءً باتفاق كامب دافيد.
ولا بد لي من أن أعترف أنني لا أعرف شيئاً عن اتحاد الصحافيين العرب، ولا إذا ما كنت عضواً فيه، ولا إذا كنت سأقبل في عضويته إذا تقدمت بطلب الانضمام إليه، ولا إذا كنت حائزاً لشروط الانضواء تحت مظلته وأنا الصحافي المحترف الممارس لمهنة الصحافة دون أية مهنة سواها منذ حوالي ربع قرن. وأريد أيضاً أن أقرّ أن جهلي باتحاد الصحافيين العرب ومهماته ونشاطاته ليس تقصيراً مني فقط، بل أعتقد مخلصاً بأنه تقصير من الإتحاد نفسه بالدرجة الأولى لأنه عاجز أن يوصل دعوته إلى صحافي عادي محترف مثلي، فالقاعدة النقابيّة تقول بأن الإتحاد أو النقابة هي التي تسعى عادة أو تقليداً نحو العضو محاولة استمالته شعوراً منها بضرورة ضم أكبر عدد من العاملين في حقلها تقوية لكيانها وتعزيزاً لقدرتها السياسية والتفاوضيّة وبالتالي لنفوذها وثقلها في المجال المهني الذي تعمل فيه.
وتابعت مداولات الأمانة العامة الإتحاد الصحافيين العرب، وأعجبت بموقفها من محاولة إسقاط كامب دافيد قبل أن يسقط باقي العالم العربي، وتأييد الثورة الأريتريّة قبل أن تفنى ودعم الصمود العربي إذا بقي فيه حيل. وكنت شغوفاً بمتابعة هذه المداولات في الصحافة الكويتيّة طموحاً مني أن أرى أي نقاش أو بحث أو قرار يتعلق بحرية الصحافي ـ الفرد حرية الصحافة ـ المهنة.
وحتى لا يقفز أحد من كرسيه ليؤنبني على هذا الطموح الشاذ أريد أن أسرع فأقول أنني عنيت أبسط أنواع الحرية المسموح لأي مواطن عادي آخر بممارستها. وهي الجد الأدنى من الكرامة المهنيّة التي يتمتع بها أي تاجر أو مزارع أو موظف في العالم العربي، لا الصحافي. فالصحافي العربي مهان عند كل مخفر حدود أو مطار أو مرفأ، وفي أي بلد عربي. فإذا كان المواطن العادي يحتاج إلى تأشيرة دخول عادية إلى بلد ما، فالصحافي يحتاج إلى تأشيرة دخول عادية مع حارس ترسله عادة وزارة الإعلام لينقذه أولاً من تهذيب رجل الحدود اللبق ومن ثم ليكون مرافقاً له ورقيباً على تحركاته.
ولكن إذا أجتاز الصحافي العربي الحدود، فلا يعني أنه أجتاز كل الحواجز. فهو متهم من قبل أن يحصل على تأشيرة الدخول أصلاً. وهو متهم من بعد أن يحصل على التأشيرة. وهو مشكوك في ولائه وفي مواقفه وفي وطنيته وفي طبيعة مهمته. الشك هو الشيء الوحيد الواضح الذي يحيط به. ولا يزول هذا الشك عادة بانتهاء الزيارة أو المهمة التي جاء من أجلها، وهي عادة ما تكون مهمة بسيطة، عي متابعة تفرضها طبيعة مهنته كصحافي نتيجة وقوع حدث أو تطور ما في ذلك البلد. لكن الشك ـ الاتهام ـ يبقى إلى الزيارة الثانية .... والعاشرة وربما الأخيرة.
أقول هذا لا دفاعاً فقط عن كرامة الصحافي العربي العادي الذي لا ينتمي إلى صحافة نظام من الأنظمة، ولا {بهورة} على النقباء الكرام أعضاء الأمانة العامة للاتحاد، ولا جهلاً بقدرة الإتحاد وحريته على الحركة، ولا حتى تدخلاً بشؤون نقابيّة أجهلها. إنما تقديراً مني لموقفهم، راجياً أن تسمح ظروفهم النقابية في اجتماع مقبل أن يبحثوا بنداً واحداً {من جملة بنود أخرى بالطبع} يدعو ببساطة إلى إحترام الأنظمة العربيّة للصحافي والحفاظ على كرامته وحرية حركته وتنقله أسوة بأي مواطن عادي من مواطنيها.
وهذا لا يعني بالطبع أن بعض الدول تعامي رعاياها بالكرامة والاحترام المطلوبين، ولكن تعاملهم قطعاً بأفضل مما تعامل الصحافيين. فعلى الأقل لا يفرزوا لوحدهم عند كل قدوم أو مغادرة ولا يعتبرون تلقائياً خطر على الأمن، ولا يشكلون طابوراً خامساً هدفه القضاء على النظام. أصبحنا لا نريد أكثر من {الحد الأدنى}.
ولعل هذا الطلب المتواضع لا يتناسب مع ما نقرأه في الصحف ونسمعه في الإذاعات ونشاهده في التلفزيونات من تصريحات وزراء الإعلام العرب وغيرهم من المسؤولين عن أهمية الإعلام ودوره وضرورته، إلى درجة بات المواطن يشعر أن الإعلام مسؤول عن {أمجاد} كل هذه الأمة، وأن لا سلاح أمضى من سلاح الإعلام في مواجهة الأعداء المتربصين بها، وإلى درجة بات من الممكن أن نصدق نحن الصحافيين هذا الكلام ـ وبعضنا من أبناء الجيل الجديد في هذه المهنة قد صدقها فعلاً. حتى أن أحد المسؤولين الإعلاميين في دولة خليجيّة دعا إلى شيء جديد أسمه {الأمن الإعلامي}، الذي لا يتعدى فحواه أكثر من إلزام الصحافيين الكتابة بقلم حبر واحد وبمفردات واحدة وبنص واحد، حتى يوفر على نفسه عناء القراءة وخاصة إذا كان الحبر من دواته والمفردات من قاموسه والنص تغنياُ بأمجاده. إنه أقصى ما تطمح إليه سياسة {التدجين} الإعلاميّة في العالم العربي، بعد كل النجاح الباهر الذي حققته.
بالطبع ليس اتحاد الصحافيين العرب هو السمؤول عن هذا {الازدهار} الذي وصلت إليه الصحافة العربيّة، ولا إلى هذا {العلو} الذي وصل إليه الصحافيون العرب. نحن الصحافيين أفراد وجماعات مسؤولون عنه إلى حد كبير. والتنظير في هذا الأمر قد يطول كثيراً. لكن الذي نرجوه من الإتحاد في اجتماعاته المتواصلة أن يتذكر بين حين وآخر، أن ما يعني الصحافي ليس التذاكر المخفضة ولا الدورات التدريبيّة ولا الدعوات السياسية. الذي يعنيه بشيء أبسط كثيراً : كرامته المهنية ومصداقيته الشخصيّة وحريته الفردية. فقط الحد الأدنى من كل هذه الأشياء.
ما أكثر تواضعنا وما أرخص مطالبنا !
وعلى الرغم من كل هذا السقوط يا سادة يا صحافيين، فما زلنا نخيف. وإلا ما الحاجة إلى {الأمن الإعلامي}؟ صحيح أن العين لا تقاوم المخرز. لكن كرامة الكلمة المطلوبة قد تساعد على رفض {أقفاص الدجاج} ووحدة الكلمة وكرامتها المهنية خير من جليس السوء.